البنا ... ولمحات فنية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
البنا ... ولمحات فنية


مقدمة

الإمام حسن البنا

ربما يستغرب القارئ للوهلة الأولى من عنوان الفصل ، فما شأن حسن البنا والفن ؟ وهل فعلاً كان للبنا تجربة في الفن ؟ وهل هذه التجربة ثرية لدرجة أن تتناول ، ويوجد فيها مادة تجعلها جديرة بالبحث ؟ هذه الأسئلة التي ربما يثيرها عقل القارئ ، أثارها عقلي عند دراسة للموضوع عند الإمام البنا رحمه الله ، ولكني بعد أن انقدحت محاور الموضوع في رأسي رأيت أنه بالفعل موضوع حري بأن يبحث ، وأن يناقش ويثار ، وهو من الموضوعات القلائل التي نأى الباحثون بأنفسهم وأقلامهم عن البحث فيها ، إما لوضع نتائج مسبقة قبل البحث بأن علاقة البنا بالفن لن تتجاوز حدود إصدار فتوى ، أو العروج من قريب أو بعيد بالفن من حيث الحل والحرمة لا أكثر .

وقد كنت نويت أن أجعل الحديث عن البنا وتجربة الفن بما للفن من مجالات رحبة ، ومن حيث تقسـيم الفن إلــى فنون صوتية ، وحركية ، ويدوية ( 1 ) ، وتناولت من الفنون الصوتية : فن الغناء والإنشـاد ، وفن النكتة . ومن الفنون الحركية : فن التمثيل . ومن الفنون اليدوية : فن التصوير والرسم الكاريكاتوري . ولكني وجدت أن صفحات البحث ستطول كثيراً ، إذا أفردت لكل ألوان الفن عند البنا وجماعة الإخوان المسلمين حديثاً مفصلاً ، فاكتفيت بالحديث عن الفن التمثيل ومسرح الإخوان .


مكانة الفن في دعوة الإخوان

لم يقف البنا من الفن مجرد المنظر أو مبدي الرأي الفقهي ، أو الداعي نظرياً إلى تبني الفن ، دون الولوج إلى ذلك عملياً ، بل ربما سبق عند البنا جانب التطبيق الجانب التنظيري ، وليس معنى ذلك أن البنا لم يكن معنياً بذلك ، بل لم يكن معنياً بالوقوف كثيراً عند الإسهاب في التنظير ، ما دام قد اقتنع بشرعية فعل الشيء ، وهذا ما حدث مع الأستاذ البنا رحمه الله ، فقد جعل للفن مساحة ليست بالصغيرة في جماعة الإخوان المسلمين ، فأنشأ فرقة مسرحية ـ بل فرقاً مسرحية ـ لعل أبرزها وأشهرها فرقة القاهرة ، فقد أنشأ الأستاذ البنا في معظم شعب الإخوان المسلمين فرقاص مسرحية ، كشعبة السيدة عائشة ، والتي قدمت عدداً من المسرحيات للناس ، منها ما هو تاريخي ، ومنها ما هو خلقي ، ومعظمها كان من اللون الفكاهي النظيف الراقي ( 2 ) .

بل إن أول رسالة صدرت تهاجم الفن والتمثيل عند جماعة الإخوان المسلمين ، كانت بسبب مسرحية قامت بها شعبة طنطا ، وقد نما إلى علم المؤلف أن هذه الفرقة المسرحية في شعبة طنطا ، قد قامت بتمثيل قصة ( الذبيح إسماعيل عليه السلام ) وأنهم جاؤوا إلى المسرح بكبش ، ومثلوا شخصية إسماعيل عليه السلام ( 3 ) ، مما حدا بالمؤلف أن يهاجم هذا الموقف ، ويهاجم أن يكون في دعوة إسلامية فرقة مسرحية من الأساس ، اعتماداً على أن التمثيل يرتكز بالأساس على الكذب ، والكذب كبيرة من الكبائر ، لا يجوز للمسلم أن يتخذها سلوكاً ولا مهنة ، حتى وإن كانت من باب الترفيه !

كما كان للأستاذ البنا نهج في جريدة ( الإخوان المسلمون ) اليومية ، لم أره في أي صحيفة إسلامية أخرى في مثل هذا الوقت ، ولا فيما بعد ، فقد كان يكتب في إحدى صفحات الجريدة اليومية برامج الإذاعة المصريـة ، بداية بالقرآن الكريم ، ومروراً بأغاني عبد الوهاب وأم كلثوم ، وغيرهما ، وكان يضع تحت عنوان الباب قوله تعالى :( إن السـمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ) الإسراء ، آية 36 .

مسرح الإخوان المسلمين

يعتبر مسـرح الإخوان المسلمين أول مسرح تنشئه جماعة إسلامية في مصر ، فقد نشأ في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي ، وقد تولى هذا الأمر الأستاذ عبد الرحمن البنا ـ شقيق الأستاذ البنا ـ المعروف بميوله الأدبية ، والذي صدر له عدة مسرحيات ومؤلفات أدبية ، وكانت أولى مسرحيات مسرح الإخوان المسلمين ، مسرحية ( جميل بثينة ) وقد أنتجت المسرحية ( لجنة تشجيع التمثيل ) التابعة لوزارة المعارف ـ التربية والتعليم ـ وقررت إخراجها على نفقتها عام 1934 م ، وقد نجحت المسرحية الأولى للإخوان المسلمين نجاحاً مبهراً ، مما حدا بأحد الباحثين وهو الدكتور شرقي قاسم في رسالته للدكتوراه ( الإسلام والمسرح المصري ) يقرر : أن مسرحية جميل بثينة قد صارت موضع المقارنة مع درة أمير الشعراء ( مجنون ليلى ) ( 4 ) .

هذا عن دلالة نجاح المسرحية من حيث التأليف ، أما من حيث الحرفية المسرحية فيكفي أن نقف على أسماء النجوم المشاركين في المسرحية ، فمنهم : جورج أبيض ، وأحمد علام ، وعباس فارس ، وحسـن البارودي ، وفتوح نشاطي ، ومحمود المليجي . ومن العناصر النســائية : فاطمة رشـدي ، وعزيزة أمير ( 5 ) .

تبع هذا العمل عدة أعمال أخرى ، وبدأ الأستاذ البنا في تعميم تجربة إنشاء الفرقة المسرحية ، من المحترفين أو الهواة على حد سواء ، كانت الفرقة الأم الكبرى فـي القاهرة ، وكانت هناك فرق أخرى عن طريق قسم الطلبة في الإخوان ، وذلك بتمرين طلبة القسم الثانوي على الأداء المسرحي ( 6 ) ، وتمّ تعميم الفكرة على معظم شُعب الإخوان في بقية المحافظات ، لتكون بديلاً للريف المصري والمناطق النائية عن المسارح والسينمات ، ولغرس أهداف وقيم تصل سريعاً عن طريق الفن ، أكثر من أي وسيلة أخرى ، وقد ذكر الأستاذ محمود عبد الحليم تجربته الشخصية في هذا المجال المسرحي ، يقول رحمه الله : ( لم يكن بقوة ـ في تلك الأيام ـ أية مؤسسة من مؤسسات الترفيه ، منافسة السينما والمسرح ، وقد رأيتها فرصة سانحة لنقل الأفكار الإسلامية إلى عقول الفلاحين وعقول الناشئة وأهليهم ، فصغت من أحداث نفي مشركي قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولبني هاشم في شعب من شعاب مكة مسرحية . وكنت قبلُ قد وضعت أحداث معركة القادسية في مسرحية طويلة ، وكانت هاتان المسرحيتان باللغة الفصحى ، فرأيت أن أضع بجانب ذلك مسرحية باللغة العامية لتخاطب عامة الناس ، وجعلت هدفها معالجة ما درج عليه الفلاحون ، وفي ذلك الوقت من الاستدانة بالربا من اليهودالذين أنشأوا مكاتب في المدن ويبعثون بمندوبهم إلى القرى والعزب للإيقاع بهؤلاء الفلاحين العوام ، ولما كانت مسرحية القادسية طويلة فقد اجتزأت بفصلها الأخير .


وقد استغرقت وقتاً طويلاً في تدريب مجموعة من شباب الشعبة على التمثيل حتى أتقن كلٌ منهم الدور الذي أسند إليه تمام الإتقان ( 7 ) .


وقد أدت الفرقة التي كونها الأستاذ محمود عبد الحليم في بداية الأربعينيات في ريف البحيرة أكثر من مسرحية ، وكان من ثمرتها: أن عدلت من مسار كثير من الناس ، وكانت سبباً في افتتاح شُعَب كثيرة على حد قوله ( 8 ) .


واستمر مسرح الإخوان المسلمين في تقديم أعماله ، بل رأينا من بين فنانيه عدداً ليس بالقليل من عمالقة الفن المصري فيما بعد ، مثل: عبد المنعم مدبولي ، وإبراهيم الشامي ، وسراج منير ، ومحمود المليجي ، ومحمد السبع ، وعبد البديع العربي ( 9 ) ، وشفيق نور الدين ، وسعد أردش ، والإخوان : حمدي غيث وعبدالله غيث ( 10 ) . وإبراهيم سعفان ( 11 ) وغيرهم .

علاقة البنا بالفنانين

كما كوّن البنا علاقة بالفنانين الذين تيسّر له الوصول إليهم ، فقد كان يتعامل مع الفنانين بروح أخرى غير ما كان يتعامل بها معظم إسلامي عصره ، وهي روح المقاطعة وعدم إقامة أي علاقة معهم ، ولا حتى الحرص على السلام عليهم ، بل السخرية أحياناً والتنقٌص من امتهانهم للتمثيل ، على عكس البنا رحمه الله ، فقد أقام البنا علاقات مع الفنانين ، تركت أثراً طيباً عن دعوة الإخوان في نفوسهم ، سواء كانت العلاقة بلقاء عابر لا يفوته فيه غرس معنى من معاني الإسلام الحسنة ، أو بإقامة علاقة تواد وتودد معه ، أو بظهور الدعوة أمامه بمظهر لا يدعوه للريبة من حملتها ، أذكر من هؤلاء الفنانين ثلاثة فقط ، هو ما وصلت إليه من خلال بحثي وتنقيبي في هذا الأمر ، إضافة إلى أعضاء فرقة مسرح الإخوان المسلمين مع الفنانين .


أنور وجدي

أنور وجدى

أما أولهم فهو الفنان أنور وجدي ، الذي كان له صيت ذائع في فترة الأربعينيات من القرن العشرين ، والذي كان يلقب بفتى الشاشة ، وله جمهوره المتابع لفنه ، يقول الدكتور محمود عساف :


( في يوم من أيام صيف عام 1945م ، وكان الجو صحواً ونسمة خفيفة تداعب الشجر في ميدان الحلمية الجديدة ، ذهبت إلى الأستاذ الإمام كعادتي كل يوم أتلقى تعليماته فيما يتصل بالمعلومات ، وكان في ذلك الوقت غير مشغول بضيوف أو أعمال لها صفة الإستعجال ، قال لي : قم بنا لنذهب إلى البنك العربي لنفتح حساب للإخوان هناك " إذ لم يكن للإخوان حساب بأي بنك حتى ذلك الوقت" .


توجهنا إلى مكتب رئيس البنك وكان يتبع سياسة الباب المفتوح للعملاء ، ويستطيع أي عميل أن يدخل إليه بغير استئذان ، دخلنا وألقينا السلام ، وجلسنا على أريكة مواجهة للمكتب ، وكان هناك رجل جالس على مقعد مجاور للمكتب وظهره منحرف نحونا ، وكان يتحدث مع شومان بك ( رئيس البنك ) وفي انتظارنا صامتين إلى أن تنتهي تلك المقابلة ، فاجأنا شومان بك بقوله :

" أهلاً وسهلاً " بصوتٍ عال فجعل الجالس إلى مكتبه ينظر نحونا ، وإذ بذلك الجالس ينتفض واقفاً ويهتف " حسن بك ؟ أهلاً وسهلاً يا حسن بك ، ثم تقدم نحونا مصافحاً الإمام ثم إباي . ثم جلس على مقعد مجاور للإمام وقال : أنا أنور وجدي ... والمشخصاتي ... يعني الممثل ... طبعاً أنتم تنظرون إلينا ككفرة نرتكب المعاصي كل يوم في حين أني والله أقرأ القرآن وأصلي كلما كان ذلك مستطاعاً .


كانت مفاجأة لي ، فلم نكن ننادي الإمام أو نشير إليه إلا بقولنا :فضيلة الأستاذ . أما حسن بك ، فقد كانت نشازا .


قال له الإمام : يا أخ أنور أنتم لستم كفرة ولا عصاة بحكم عملكم ، فالتمثيل ليس حراماً في حد ذاته ، ولكنه حرام إذا كان موضوعه حراماً .

وأنت وإخوانك الممثلون تستطيعون أن تقدموا خدمة عظمى للإسلام إذا عملتم على إنتاج أفلام أو مسرحيات تدعوا إلى مكارم الأخلاق ، بل إنكم تكونون أكثر قدرة على نشر الدعوة الإسلامية من كثير الوعاظ وأئمة المساجد .


إني أرحب بك وآمل أن تحضر لزيارتنا بدار الإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة لنتبادل الرأي حول ما يمكن أن تسهموا به في نشر الفضيلة والدعوة إلى الله ( 12 ) .

فعندما سمع أنور وجدي هذا الرد الجميل من الإمام البنا بكى أنور وجدي وقبل يده ورأسـه ( 13) ، بعدهـا رأينا لأنور وجدي ( ليلى بنت الفقراء ) ( 14 ) .


حسين صدقي

حسين صدقى

والفنان الآخر : هو حسين صدقي الذي يشير بعض معاصري البنا إلى علاقة بينه وبين البنا في نهاية الأربعينات من القرن الماضي ، قبل وفاة البنا ببعض شهور ، وأكمل الأستاذ سيد قطب المشوار الدعوي معه ، إذ كان يسكن بجواره الفنان حسين صدقي رحمه الله ، وقد ذهب إليه يخبره أنه ينوي اعتزال التمثيل ، وتركه نهائياً ، فقال له سيد قطب : إنني أكتب عشرات المقالات ، وأخطب عشرات الخطب ، وبفيلم واحد تستطيع أن تنهي على ما فعلته أنا ، أو تقويه ، أنصحك أن تستمر ولكن بأفلام هادفة .


وبالفعل قدم حسين صدقي بعد ذلك فيلمين : الأول ضاع عن ذهني اسمه ، وقد مثل فيه معه : حسن فايق وعزيزة حلمي ، وماجدة ، وكان يدور حول علاقة الأب بأبنائه ، وأسلوب التربية الخطأ ، وقد دخل هذه الأسرةالمفككة فأقام علاقة جيدة بالأولاد ، مما كان سبباً في تحسين علاقتهم بأبيهم وربهم .


أما الفيلم الآخر : فهو فيلم : ( الشيخ حسن ) ولم أره ، ولا يعرضه التلفزيون المصري ، فقد صادرته الرقابة آنذاك ، ولكني رأيت إعلانه في الجرائد القديمة ، وقد رأيت صورة حسين صدقي يرتدي الزي والعمامة الأزهرية ، وشاركه في البطولة ليلي فوزي ، وسألت أحد الذين شاهدوا الفيلم ، فحكى لي أنه يدور حول شيخ أزهري ، عرف فتاة مسيحية فدعها إلى الإسلام فأسلمت فأثار الفيلم ضجة ـ واعتراضا من المسيحيين في مصر ، فآثرت الرقابة السلامة فمنعته .


عمر الشريف

عمر الشريف

أما الفنان الثالث الذي يبدو أن البنا والإخوان أقاموا معه علاقة وتعامل ، أو رأى منهم سلوكيات تشعره بموقفهم تجاه الفن ، مما أثر في رأيه تجاه الإخوان بالإيجابية ، فهو الفنان العالمي المصري المعروف عمر الشريف الذي هاجت الدنيا بعد فوز الإخوان في انتخابات البرلمان المصري في نوفمبر 2005 م ، متخوفين من موقف الإخوان تجاه الفن والثقافة ، فصرّح عمر الشريف أكثر من مرة بأنه لا أساس لهذا الخوف من الإخوان فهو يعرفهم منذ القدم ، وهم ليسوا ضد الفن ، ولا شك أن هذه الصورة تكونت لديه من نهاية الأربعينات وبدايات الخمسينات ، كما ذكر في تصريحه ، فقد غابوا بعد ذلك فترة طويلة وراء السجون إلى منتصف السبعينات ( 15 ) .


البنا والفن اليدوي

أما عن البنا والفن اليدوي والمتمثل في التصوير الفوتوغرافي والرسم وغيره ، فموقف البنا فيه موقف معروف ، فلم يكن البنا ضد التصوير الفوتوغرافي ولا ضد الرسوم الكاريكاتورية ، فمن أول مجلة أنشأها الإمام البنا استخدم فيها الصور ، وهي مجلة ( جريدة الإخوان المسلمون ) ففي السنة الأولى منها فاجأ البنا الجميع بأمر لم يكن مألوفاً في المجلات الإسلامية ، فقد أعلن عن إنشاء قسم الأخوات المسلمات في جماعة الإخوان المسلمين ، فكتب تحت عنوان :

إلى الأخوات المسلمات نداء من السيدة لبيبة هانم أحمد مسؤولة قسم الأخوات المسلمات ، تدعو فيه أخواتها المسلمات للتعاون معها في هذا القسم ، ثم ثنّى على ذلك البنا بتعقيب على ما كتبته السيدة لبيبة هانم أحمد ، بعنوان : مثال المرأة المسلمة الصالحة السيدة لبيبة هانم أحمد ، وقدمها بما فيها من خلال وصفات ، وقد وضع في رأس الصفحة صورة السيدة لبيبة هانم أحمد (16 ) ويعتبر هذا أول مرة تجرؤ مجلة إسلامية على نشر صورة امرأة في صدر صفحة من صفحاتها ، أو في أي صفحة من صفحات مجلتها .


ثم اقترح أحد الإخوان على الأستاذ البنا أن ينشر صور أعضاء جمعية الإخوان المسلمين من باب التعارف ، وذلك في السنة الثالثة من المجلة ، فبادر الإمام البنا بتنفيذ الفكرة ، فنشر صورته ، ثم بعد ذلك صور عدد من الإخوان ، كلما أرسل عضو صورته نشرت مع ذكر اسمه وذكر منطقته . ونفذ نفس الفكرة في ( مجلة الشهاب ) آخر مجلات البنا إصداراً ، فقد كان يفرد في نهاية المجلة صفحة أو صفحتين ينشر فيها صوراً لعلماء ومفكرين ودعاة ، معرّفاً في صفحة أخرى أو أكثر بأصحاب الصور بما يليق بهم من تعريف ، ويعطي القارئ نبذة مختصرة عنهم .

هذا الأمر يجعلنا نخرج بنتيجة : وهي أن الإمام البنا كان رأيه جواز التصوير الفوتوغرافي ، وعدم ممانعته في ذلك ، وإن لم يكن هناك أي فتوى للبنا في حكمه ، ولكن رأينا له فعلاً عملياً في ذلك .

البنا وفن الكاريكاتير

كـانت علاقة الإمام البنا بالجماعات العاملة في حقل الدعوة الإسلامي وطيدة ، يجمع بينهما الود والتعاون ، وكذلك حاول مع بعض الأحزاب ، إلا أن هناك أحزاباً ناصبته العداء ، وسخرت صحافتها للنيل منه ، والتهكم عليه ، وعلى دعوته ، وكثيراً ما كانوا يرسمونه في صورة كاريكاتورية تعبر عن سخريتهم من دعوة الإخوان ، ومنه شخصياً ، كما في تعمدهم دوماً عند الحديث عنه نعته بمدرس الخط ، وكان البنا يرد على ذلك كله بالرد الجميل ، وكان يرسل خطاباته للنحاس باشا رئيس وزراء مصر بهذا الأسلوب : من مدرس الخط إلى دولة رئيس الوزراء ، وقد كان لصحف الوفد النصيب الأكبر في النقد والتهكم .


غير إن كثرة تجاوز الصحف التي سخرت أقلامها للنيل من البنا ودعوته دفعت بعض الإخوان للجوء للرد عليهم بنفس الأسلوب ، وقد قرر عضوان من الإخوان إصدار مجلة ساخرة كاريكاتورية ، وأعلنوا مراراً في جريدة ( الإخوان المسلمون ) اليومية عن مسابقة للبحث عن عنوان لمجلة لا حزبية ، ثم استقر صاحبا المجلة على أن تصدر باسم ( الكشكول الجديد ) وقد قررا الاستقالة من تنظيم الإخوان حتى لا تحسب كتاباتهما عليه ، على الرغم من حملهما أهداف الجماعة ، ونشرا استقالتهما في المجلة ، وطلبا من الأستاذ البنا التعقيب على ذلك ورأيه في المجلة نفسها ، فرد عليهما الأستاذ البنا فكتب يبين رأيه في هذا الفن ، وكيف يكون ، والخطة التي يقترحها عليهما ، فكتب رحمه الله قائلاً :


( تلقيت استقالتكما من الإخوان المسلمين ، وقرأت ما كتبتماه عن ذلك في مجلة ( الكشكول ) في عددها وعرضتها على الهيئة التأسيسية للإخوان في اجتماعها الماضي فوافقت عليها شاكراً لكما جهودكما الصادقة في خدمة الدعوة الكريمة سابقاً ، وحسن استعدادكما لخدمتها لاحقاً . وجميل ثنائكما عليها واعترافكما بما تقدم للشباب من خير وحسن توجيه ، فأبلغكما ذلك سائلاً الله تبارك وتعالى أن يوفقنا جميعاً لخير دينه ، والعمل على إعلاء كلمته ، وإرشاد الناس إلى سبيله ، آمين .


ولقد تابعت بعد ذلك ما يكتب في الكشكول ، فأردت أن أتقدم لكما بمخلص النصيحة ، نصيحة من لا يزال وسيظل يشعر لكما بعاطفة الأخوة الكاملة التي ربط الله بها قلوب عبادة المؤمنين فـي محكم كتابه إذ يقول: ( إنما المؤمنون إخوة ) الحجرات : الآية 10. ذلك أني وإن وافقتكما موافقة تامة في وجوب محاربة الحزبية والاستعمار ومقاومة المبادئ الهدامة الفاسدة كائنة ما كانت ، فإني لا زلت أخالفكما في الأسلوب على الصورة التي رأيتها في ( الكشكول الجديد ) .


ولهذا أرجو أن تسلكوا به مسلكاً آخر نحو بناء جديد . حاربوا الحزبية بصورتها البغيضة التي ظهرت بها في مصر ، فأحرجت الصدور ، وجرحت الأبرياء ، ونفرت القلوب ، وقززت النفوس ، وأوهنت القوى وأفسدت الأخلاق والضمائر ، وفعلت بالمجتمع الأفاعيل .


وحاربوا الاستعمار الغاشم الظالم الماكر الخادع الذي سلب حريتنا ، وقيد استقلالنا ، وتدخل في كل شؤوننا ، وحرمنا خيرات بلادنا ، وتراث كدنا وكفاحنا ، واستأثر دوننا بكل شيء ومهّد في وطننا لكل دخيل ، وكان في حياتنا الاجتماعية رأس كل خطيئة .


وحاربوا المبادئ الهدامة التي لا تتكشف في حقائقها وأهدافها ومراميها إلا عن الإلحاد والكفران والإباحية والإثم والعصيان ، والتمكين للمستعمر القديم ، أو التمهيد للمتحفز الجديد ، كأنما كُتب على هذه الأمة ألا تنقل من سيادة إلا إلى سيادة ، وألا تتذوق طعم الحرية أبداً على أيدي هؤلاء الخبثاء . ويأبى الله ذلك والمؤمنون .


حاربوا كل هذا واكشفوا عن مخازيه للناس ، وحذّروهم إياه ، ولقد كان سفيان الثوري يقول لأصحابه إذا اجتمع إليهم : تعالوا نذمّ ساعة في سبيل الله ، لا تجالسوا فلاناً فإنه كذاب، ولا تأخذوا عن فلان فإنه يضع الحديث ، ولا تتقوا بفلان فإنه متهم في دينه ، أو رأيه وهكذا .


ولكن تحرّوا في ذلك كلمة الحق الذي لا يفتري ولا يعتدي ولا يكذب ، والجد الذي يحفظ على النفوس قوتها لا تتميع معه الأخلاق ولا تموت بكثرته القلوب ، ولا يذهب برهبته العدوان ، ولا يضعف مشاعر السخط وهي عدّة المجاهدين ، ولا ينافي ذلك ورود المزحة القاسية ، والنكتة اللاذعة ، ورّب واحدة من هذه أبلغ من قول كثير ، ثم خصصوا أبواباً لهذا ، واحرصوا على أن يظهر هذا اللون واضحاً .


وتجنبوا الانحياز إلى جهة فإنكم تحاربون مذاهب وآراء وأعمالاً على يد كائن من كان . ولا تكشفوا عما ستر الله من النقائص الشخصية ، فإن الإذاعة عن ذلك في ذاتها إثم من الآثام ما لم يتعلق بذلك حق للمجتمع ، أو مصلحة تعود على الناس ، والعفة عن الولوغ في الأعراض أدب الإسلام ، ولا أجمل من التورع والاحتشام .


كونوا كذلك واطبعوا مجلتكم بهذا الطبع وانهجوا به نهجاً جديداً ، ( ونحو بناء جديد ) وأعتقد أنكم بذلك ستقدمون إلى الناس غذاءً شهياً سائغاً لا تعبَ معه ، ولا ضرر فيه إن شاء الله . وحينئذ يكون لمثلي على ضعفه وضيق وقته ألا يحرم نفسه المساهمة معكما في هذا الجهادوالله أسال لي ولكما كمال الهداية ودوام التوفيق . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ( 17 ) .


في هذا النص يتبين لنا بوضوح موقف البنا من هذا الفن ( الكاريكاتير )، وهو الموافقة والتأييد ، بل جعله جهاداً ، ولكنه وضع شروطاً هامة في كيفيته ، وأخلاقيات على من يمارسه أن يتخلق بها ، لا أرى فائدة في إعادتها ، فهي واضحة المعالم والعناصر في صلب مقال البنا .

البنا وفن النكتة

كما كان البنا رحمه الله يستخدم لوناً من الفن اشتهر به المصريون ، وهو فن النكتة وهو يمتاز بهذا الفن تذوقاً ، وإنشاء ، ومن ذلك ما حكاه الشيخ الغزالي رحمـه الله مـن قصة زواجه ودور البنا فيه ، يقـول الشيخ الغزالي رحمـه الله :

( مع تسلمي للعمل الحكومي ، تم زواجي ، وكان الأستاذ البنا قد تدخل في المسألة التي بدأت معقدة ، فإن والد الفتاة التي اخترتها كان يطمع في زوج أغنى مني .. إنه من قريتنا ، وإن كان موظفاً بوزارة العدل في القاهرة، وعلم أن مرتبي ستة جنيهات ، أعطي أبي نصفها تقريباً ..!

لكن الأستاذ المرشد أقنع الرجل بأني أفضل من غيري ، والمسـتقبل بيد الله ، وسيكون خيراً .

وتزوجت وسألني الأستاذ المرشد : ماذا فعلت مع فلان ـ يعني صهري ـ ؟ فقلت : دخلت بابنته . قال عاتباً : لِمَ لم تدعني ؟ وتمثل بقول الشـاعر ، وهو يبتسم :

وإذا تكون كريهة أدعى لها .... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب

فقلت : لم تكن هناك وليمة ، اكتفينا بأشربة حلوة ، تناولها بعض الزملاء ، وأوسع لي الرجل غرفة في بيته والحمد لله ، فدعا لنا بالبركة ) ( 18) .

ويحكي الدكتور جابر قميحة نكتة قصها عليه الحاج عبد الرزاق هويديـ والد الكاتب الإسلامي المعروف الأسـتاذ فهمي هويدي ـ خلاصتها : أنه ركب ( حنطوراً ) مـع الإمام الشـهيد ومعهما ثالث قاصدين إحدى القرى المجاورة لــ ( بنها ) لا تقصدها السيارات لضيق الطريق ، وكان الجو بارداً عاصفاً ، فطلب الإمام رفع غطاء الحنطور إلى الخلف ؛ لأن وضعه الحالي يزيد من مقاومة الحصان للهواء فيتعبه . قال الحاج عبد الرزاق : بل نتركه يا فضيلة المرشد لأن الجو بارد . ولا ضير فصاحب الحنطور من الإخوان . فصاح الإمام : سبحان الله يا أخي !!! لكن الحصان مش من الإخوان .


وكان الإمام البنا إضافة إلى أنه يمازح ويضاحك من حوله ، كان من هواة القفشات الضاحكة ، كما حدث وأن زار عمدة ( رشيد ) محمد بك طبق ، وفي جلسة تعارف ـ كما هي عادة البنا ـ بدأ العمدة فقال : ( محمد طبق ) عمدة رشيد ، ثم تلاه بجواره في التعارف قائلاً : ( محمد سمك ) رئيس مجلس بلدية رشيد ، وقدم الذي يليه نفسه بقوله : ( زكي طبيخة ) طالب !!

فقال الأسـتاذ البنا وهـو يبتسم : ( سـفرة دايمة ) وضحك الجالسون جميعاً (19 ) .

البنا وفن الإنشاد والغناء

وقد استخدم البنا من أول دعوته فن الإنشاد وبخاصة الديني منه ، الذي يغرس القيم ويذكّر بالماضي التليد . ولا غروَ أن رأينا أكبر جماعة إسلامية لها رصيد هائل من الأناشيد وهي جماعة الإخوان المسلمين ، ولا يشاركها أو ينازعها في هذا الكم جماعة أخرى . فقد اختار البنا نشيداً ليكون نشيد الإخوان ، والذي ألفه شاعر الإخوان الأستاذ أحمد حسن الباقوري بعنوان ( يا رسول الله هل يرضيك أنا ) .


ثم بعد ذلك توالت الأناشيد كنشيد الكتائب الذي ألفه الأستاذ عبد الحكيم عابدين ، وغيره من أناشيد الجوالة ، وأناشيد الجهاد .

إذاعة الإخوان المسلمين

كما أنشأ الأستاذ البنا إذاعة خاصة ، وكان هذا الأمر في عهد الملكية المصرية قبل ثورة يوليو أمراً ممكناً ، وقد سلمها إلى الحكومة المصرية بعد قرار حلّ الإخوان الأول في عهد النقراشي .


وأحياناً كانت جريدة الإخوان المسلمين اليومية تُعيد كتابة ما تبثه من أحاديث الأستاذ البنا ، كمقالي (صور من الماضي) و (ثمن الحياة) .


لماذا اختفت هذه الصفحة من تاريخ البنا المنشور؟

الراصد لكل هذه الأدبيات عند البنا ، والمواقف العملية له ، من خلال علاقته بالفن ، يقف مذهولاً أمام سؤال ملحّ : لماذا اختفت هذه الصفحة من تاريخ البنا فلم تنشر ولم تُذكر ، ولم يحكها أحد عنه إلا في أضيق المواقف ؟! وهو أمر مستغرب بشدة من معاصري الرجل ، ولم يحرص حتى جيل السبعينات على إبراز هذه الصفحة والمواقف معاً .


والسبب في تقديري : أن الإخوان بعد خروجهم من السجون في السبعينات ، خرجوا وقد وجدوا صحوة بين شباب الجامعات ، وقد غلب عليها طابع التشدد ، والتشنج ، والرفض .


أضف إلى أن الإعلام في هذه المرحلة خاصة كان إعلاماً يتسم بالتشدد من هذه المواقف .

كما غلب على أدبيات حتى هذه المرحلة ما سمي بأدبيات المحنة ، أو أدب السجون .


إنه خط عام لمرحلة عاشتها الصحوة الإسلامية بأسرها ، وهي مرحلة : أدبيات المحنة ، وفقه محنة ، والتي عاشتها الصحوة في بدايات السبعينات فترة ليست بالقصيرة ، فقد سادت بهذه الفترة في أدبيات الإسلاميين أدبيات المحنة ، وفقه التشدد ، وذلك في كل مجالات الصحوة الإسلامية عموماً ، والحركة الإسلامية خصوصاً ، فعند الحديث عن الدعوة الإسلامية المعاصرة وتاريخها ، نرى التركيز الشديد على ما حدث فـي معتقلات عبد الناصر على التعذيب ، والقتل ، والشنق ، والتنكيل بالدعاة ، في مقابل يمر المتحدث مرور الكرام على إنجازات الحركة ، والتحديات التي تواجهها في المرحلة المقبلة .


كما سادت لهجة التهييج الإعلامي وخط التشدد في مجلات الصحوة ، كمجلة ( الدعوة ) ومجلـة ( الاعتصام )، إذ نراها تصب جام غضبها عند تناولها للرموز الدينيـة عندمـا تبرز أي نقطة ضعف فــي حياة أحدهم ، فنرى مجلة ( الاعتصام ) تمطر الشيخ محمود خليل الحصري رحمه الله شيخ المقارئ المصرية بوابل من الهجوم ، والسـبب في ذلك : هو اتجاه ابنته ( إفراج الحصري ) ياسمين الخيام للغناء ، رغم أن الرجل لا ذنب له في ذلك ، كما أنها لم تكن تغني غناءً فاحشاً ، بل جل غنائها ـ إن لم يكن كله ـ غناء وطني وإسلامي ، مما أباحه عدد كبير من العلماء .

وكذلك رأينا مسارعة الشيخ محمد الطوخي ـ المنشد الديني المعروف ـ في نفي علاقته بالممثلة إيمان الطوخي وأنه ليست ابنته ، مخافة أن يلحقه أذى من بعض الأقلام التي تتصيد ذلك ، وقد شاع بين الناس ـ بسبب تشابه الاسم ـ أنها ابنته ، فاضطر إلى نشر تكذيب أنها ابنته في مجلة ( الاعتصام ) .


وخرجت (مجلة الدعوة ) رغم اعتدال ولين جانب الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله وهو المشرف عليها ، إلا أنها نحت هذا المنحى في بعض أعدادها ، فقد ذهب الأستاذ محمد عبد القدوس للشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله ، لإجراء مقابلة معه ، فرفض الشيخ لقاءه بوصفه مندوباً من قبل (مجلة الدعوة ) ، فخرج عدد المجلة وعلى الغلاف عنوان عريض : لقاء عاصف مع الشيخ الشعراوي ، وفي داخل العدد لم يحل للمجلة أن تنشر صورة للشيخ الشعراوي إلا صورته وفي يده سيجارة يدخنها !!


حتى في أفراح وأعراس الإسلاميين آنذاك ، كانت الأناشيد والأهازيج التي تنشد كلها أناشيد خرجت من مشكاة أدبيات المحنة ، ولا تراعي المقام الذي تقال فيه ، فنجد من الأناشيد التي تنشد في الأعراس :

تدلّت الحبال لتشنق الرجال !

أو نشيد :

جاهـدْ فـي الله أُخَيّ ...... جاهـدْ إن كنت تقياً

تمـلك آفاق الدنيـا ...... وتلاقــي الله رضيا

جُد بالمـال وبالنفـسِ ...... إن تطمع في الفردوس

فهنالك أجمـل عرس ....... بالمؤمـن والحوريـة


فأي كلام هذا الذي يقال لعروس يزفّ لعروسه ؟ وما دخل عبارات الجهاد والمشانق بالزواج ؟ وأين هذا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد سألته ماذا تقول في الأعراس ، فقال لها : قولي :


أتينـاكم أتينـاكـم ..... فحيونـا نحييكـم

ولولا الحنطة السمرا ..... ما سمنت عذاريكم


هذا عند المتدينين الذين يقبلون بالإنشاد في الأعراس ، فما بالنا بمن يرفضون الإنشاد من أساسـه ؟ ولا يرون العرس يقام إلا بمحاضرات دينية وطعام ، ثم ينفض العرس ، وهذا هو حفل العروسين !!


إنها إذاً أدبيات مرحلة هيمنت عليها البيئة التي عاشها الدعاة آنذاك ، وظلّت لفترة ليست بالقصيرة تهيمن على أدبيات وفقه وسلوك أبناء الصحوة .


كل هذه العوامل كانت عائقاً أمام مَن يتكلمون عن البنا وتاريخه من ذكر هذه الصفحة ، وغيرها من صفحات أخرى يتوجس المحبون للبنا خيفة من ذكرها ، بل أحياناً يغالون في نفيها !!

خصائص الفن عند البنا

لقد امتازت تجربة البنا والفن ، والفن بوجه عام عند البنا بعدة خصائص تبيّن ملامح هذا المشروع الفني ، وتبيّن الميزات التي امتاز بها ، وهي بإجمال :

1 ـ فن ملتزم :

فقد امتاز الفن عند البنا بأنه فن ينطلق في دائرة الالتزام ، ولا يُحيد عنها ، فله أخلاقيات ومبادئ يسير في إطارها ، فلا يُستدرج لمحرم حتى ولو كان مما يُعجب الجمهور ويجذبه ، كما في كثير من وسائل الفن غير المنضبط بضوابط الشرع ، ولذلك لما هاجم أحد المتدينين مسرحية عن ( الذبيح إسماعيل ) عليه السلام ، وأشاع أنهم أتوا محرّماً في ذلك ، ومثّلوا شخصية جبريل عليه السلام ، ولم يكن البنا قد شاهد المسرحية ، فأوقفها البنا إلى أن يتبيّن مـن ذلك جيداً ، وقال : نتوقف سداً للذريعة .


2 ـ فن منفتح :

كما امتازت تجربة البنا في الفن بالانفتاح ، سواء في الانفتاح من حيث تكوين الفرقة ، أو من حيث عرض الموضوعات ، فلم يُصر على أن يكون أعضاء الفرقة من تنظيمجماعة الإخوان فقط ، أو من المسلمين فقط ، بل رأينا عدداً من فرقته ليست له علاقة تنظيمية بالإخوان ، واستعان بالعنصر النسائي أيضاً ، واستعان بغير المسلمين في العمل المسرحي والدعاية .


وكان منفتحاً في موضوعاته التي تناولها وأدّها ، فلم يقف موقف التضييق من قضايا يجد فيها الإسلاميون اليوم حرجاً شديداً في طرحها ، بل إنكاراً ، فرأينا أول مسرحية للإخوان يقدمونها على مسرحهم ( جميل بثينة ) وهي مسرحية رومانسية تتكلم عن الحب العذري العفيف .


3 ـ فن واقعي :

فهو فن لم يحلّق بالناس في أجواء خيالية لا تمت إلى واقعهم بصلة ، فلم يأتش لهم بقصص أو مسرحيات بعيدة عن واقعهم ، وإن استلهم معظمه من التاريخ الإسلامي والعربي ، فعالج قضايا الحب والعروبة والوطنية ، من خلال المسرحيات التي قدمها مسرح الإخوان المسلمين .


4 ـ فن يجمع بين الأصالة والمعاصرة :

فهو يجمع بين أصالة الفكر والمنطلق ، وبين معاصرة الوسائل والأدوات ، لم يقف عند حدود القديم ، مهملاً الحديث ومستجداته ، فيكون بذلك خطاباً محنطاً جُلب لزمان لا يصلح له .

عوامل نجاح تجربة البنا في الفن :

عوامل ساعدت على نجاح تجربة البنا في الفن

لقد حالف النجاح تجربة البنا في الفن ، لعدة عوامل ساعدت على هذا النجاح ، ينبغي دراستها :


1 ـ اعتماده على مبدأ إنسانية الفن

من أولة العوامل التي ساعدت على نجاح تجربة الإمام البنا في الفن ، أنه تبنى مبدأ هاماً في تناول الفن والتعامل معه ، وهو مبدأ اعتماد إنسانية الفن في الحكم على الفن من حيث إسلاميته ، وهو ما تبناه نظرياً وكتابة فيما بعد الأستاذ محمد قطب حفظه الله ولكن في مجال الأدب ، فتبنى مبدأ إنسانية الأدب ( 20) ، وقد سبقه إلى ذلك الأستاذ البنا في الفن ، فتبنى المبدأ عملياً ، ويبدو أنه ساقه إلى ذلك تنظير علمي ، وإن لم يترجم إلى كتابة في كتابات الأستاذ البنا ، فقد حاولت البحث في كل تراث الإمام البنا المجموع منه وغير المجموع كي أعثر على نص في هذا المقام فلم أجد ، ولكني وجدته في تطبيقه العملي في تجربته ، وأعني بأن الإمام البنا تبنى مبدأ إنسانية الفن ، أي أنه وضع أهدافاً للفن الإسلامي ، وأن هذا الهدف إذا تحقق ـ ولو على يد من لا يؤمنون بقضية الفن الإسلامي ـ أن نعتبر هذا الفن معبّراً عن الفن الإسلامي .


وقد تأملت في هذا التوجه عند الأسـتاذ البنا ، فألفيته منهجاً إسلامياً بلا شك ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحكم على المبادئ والمفاهيم والثقافات من حيث أهدافها ونفعها ، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم عن شعر أمية بن أبي الصلت الشاعر الذي مات كافراً : " آمن شعره ، وكفر قلبه " ( 21 ) .


وقال رسـول الله صلى الله عليه وسـلم : " ثم أصدق كلمة قالها شـاعر كلمة لبيد : ألا كـل شـيء ما خـلا الله باطل . وكاد أمية بن أبـي الصلت أن يُسلم " ( 22 ) .


قال الإمام المناوي : ( وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم ، لكنه لو يوّفق بالإسلام مع قرب مشربه )(23) .


وعن الشريد بن سويد الثقفي رضي الله عنه قال : " ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال : هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيئاً ؟ قلت : نعم ، قال : هيه . فأنشدته بيتاً ، فقال : هيه . ثم أنشدته بيتاً . فقال : هيه . حتى أنشدته مائة بيت . قال : إن كاد ليسلم " (24 ) .


قال الإمام النووي : ( مقصود الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم استحسن شعر أمية واستزاد من إنشاده ، لِما فيه من الإقرار بالوحدانية والبعث ، ففيه جواز إنشاد الشعر الذي لا فحش فيه وسـماعه ، سواء شعر الجاهلية وغيرهم ) ( 25) .


فالنبي صلى الله عليه وسلم حكم على شعره بالإسلام ، وإن لم يؤمن قلبه ، وكان يستنشد صحابته ويستزيدهم من شعره ، رغم كفر الرجل .


كما حكم النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامية مبدأ وهدف حلف الفضول الذي عُقد في بيت عبد الله بن جدعان ، قبل بعثته صلى الله عليه وسلم ، وهو حلف لنصرة المظلوم ، فقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم : " لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو دُعيت به في الإسلام لأجبت " ( 26) .


2 ـ تبنّيه فقه التيسير

كما سـاعد الإمام البنا في تجربته الفنية أنه تبنى فقه التيسير في قضايا الفن ، فإن فقه التيسير كفيل باستمرارية الفن ، أما فقه التشدد فلا يمكن أن ينشأ فن في ظلاله أبداً ، وأحب أن أوضح أمراً مهماً هنا حتى لا نفهم قضية التيسير عند البنا خطأ ، وهو : أن ما أعنيه بالتيسير هنا عند البنا : ليس التهاون أو التفريط ، أو التساهل والتجاوز لأوامر الله ونصوص شريعته ، فما يعقل أن يفعل ذلك البنا ولا عالم يخشى الله سبحانه وتعالى ، وإنما الذي أعنيه بالتيسير : هو الميل في الفتاوى والآراء إلى الأيسر ، وذلك يكون إذا كانت المسألة محل رأي واجتهاد واختلاف ، أو كان فيها نص محتمل ، وإذا تساوت أدلة الجواز والمنع ، وهو في ذلك لا يخالف الشريعة ، بل هو ملتزم بروحها ونصها ومقاصدها ، وهو ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه والمسلمين جميعاً فقال : " يسّروا ولا تُعسّروا ، وبشّروا ولا تُنفّروا " ( 27 ) . وهو منهج النبي صلى الله عليه وسلم الذي " ما خُيّر بين امرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً " ( 28 ) .


كما يعضد ذلك أيضاً عدة أحاديث منها : قول الرسـول صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه " ( 29 ) .

وقولــه : " إن الله يحب أن تؤتـى رخصه ، كما يكره أن تؤتـى معصيته " ( 30)

وقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب أن تُقبل رخصه كما يحب أن تؤتى فريضته " ( 31 )

وسار الصحابة والتابعون على هذا النهج النبوي ، يقول ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما : إن الله يحب أن تؤتى مياسره ، كما يحب أن تؤتى عزائمه .


وقال إبراهيم التيمي : إن الله يحب أن تؤتى مياسره ، كما يحب أن تطاع عزائمه .


وقال عطاء : إذا تنازعك أمران فاحمل المسلمين على أيسرهما ( 32 )

وقال الشعبي : ما خُيّر رجل بين أمرين فاختار أيسرهما ، إلا كان ذلك أحبهما إلى الله تعالى .


فالبنا لم يكن بِدْعاً أن تبنى فقه التيسير في قضية الفن ، وذلك لتسيير عجلة الفن ، فلو أن البنا ـ مثلاً ـ وقف عند قضايا الفن متبنياً الرأي الأشد في القضية المطروحة لما أنشأ فناً ولما اقترب منه سواء منشئاً أو حتى مشاهداً له ، فلو استعرضنا القضايا المثارة فقهياً في مسألة الفن وتبنّينا فيها قضية التشديد بديلاً عن التيسير ، فلَكَم أن تتخيلوا أنه لا فن أساساً ، وهذه بعض القضايا المثارة في الفن من حيث وسائله : استخدام الآلات الموسيقية ، فسنرى فتاوى تبرز عندئذ بحكم استخدام الآلات الموسيقية ، وأنها محرّمة ، ثم إذا كانت هذه الآلات حلالاً ، أو كان منها ما هو حلال شرعاً ، فمن يستخدم هذه الآلات ؟ إنهم لا يُجيزون ذلك إلا للمرأة ، ثم يتفرع عن ذلك قضية أخرى : لمن تضرب المرأة بالدف أو آلة الموسيقى التي تباح عندهم ؟ إنها لا بد من استخدامها ذلك لسيدها ، أو لزوجها ومحارمها فقط ، حيث إنهم لا يُجيزون للرجل استخدام ضرب الدف ، فضلاً عن الآلات التي يُحرمون استخدامها بداية .


ثم الانتقال إلى قضية ثانية ، وهي : من يعمل بالفن وما حكمه ؟ إن العمل بالفن ـ عند الرأي المتشدد ـ فيه حرج شرعي ، وهو أنه خارم للمروءة ، وبذا تسقط شهادة من يعمل بالفن ، وتجرح في عدالة شخصيته .


ثم تأتي قضية شرعية ثالثة تُثار ، حتى لو أجاز القائلون بالنهي عن استخدام الآلات ، والعمل بالفن ، فهم يثيرون قضية أخرى ، وهي : لو كان العمل بالفن جائزاً فلا يجوز أن يكون الفن مهنة يأخذ عليها الإنسان أجراً .


ثم إن اشتراك المرأة في الفن لا يجوز ، لأنه اختلاط ، والاختلاط مذموم ومحرم شرعاً ، غير مفرقين بين ما هو من باب الاشتراك الجائز وبين ما هو محرم لما يجلبه من مفاسد خلقية . وكذلك فإن صوت المرأة عورة ، فلا ينبغي لها أن تبرز صوتها ، فضلاً عن أنها تمثّل أو تغني .


وهكذا عدة قضايا فقهية تثار ، لو أن البنا وقف عند هذا الجدل الطويل الذي لا يقتنع فريق برأي الفريق الآخر ، لما تحرك تجاه العمل ، ولما ظهرت لعمله ثمرة ، بل إن الإمام البنا رحمه الله تخطى كل هـذا بتبنيه فقه التيسير في الفن ، والأخذ بأيسر الآراء في ذلك .

3 ـ عامل بيئي :

والحق إن أهم عامل ساعد البنا في ذلك هـو طبيعة المجتمع المصري آنذاك ، ولم يكن في عهده من يشوّش على مسيرته الفنية تشويشاً يعيقه بصورة شديدة كما هو الآن ، فأكبر الأمور التي ممكن تحدث وقتها أن يهاجمه كاتب في مقال وينتهي عند هذا الحد ، وليس كما نرى الآن تجهّز ترسانة علمية من الكتب والمقالات والمجلات والمنشورات والفضائيات ضد من يخالف بعض التوجهات في رأي فقهي ، فلو قارنا ذلك ـ مثلاً ـ في حياة البنا الدعوية بفتوى واحدة للشيخ يوسف القرضاوي الذي قامت الدنيا وما قعدت لرأي ذكره يجيز فيه عمل المرأة بالتمثيل الذي وضع له شروطاً تضبط الأمر ، كأن يكون اشتراكها ضرورياً ، وأن تظهر بلباس الإسلام ، ولا تضع المساحيق ، وأن يراعي المخرج والمصوّر عدم إبراز مفاتنها والتركيز عليها في التصوير ، فقام عدد من كتّاب الدعوة السلفية بمخالفته ومهاجمته كتابةً ، بل ومن كتّاب الإخوان كذلك ، وأفردت مجلة ( المجتمع ) الكويتية أعداداً لذلك ( 33 )


فالبيئة العلمية والدعوية في عهد الأستاذ البنا نراها قد سبقت سبقاً هاماً في التطور الفكري ، بدأ هذا التطور في الانحسار فيما بعد ، فمثلاً مما تستهجنه الساحة العلمية والدعوية الكتابة عن الأحياء ، والإشادة بجهودهم ، ومدحهم والثناء عليهم بما يستحقون ، ولكن على عهد البنا كانت البيئة تسمح بذلك وتتقبله ، كما رأينا من كتابات كتبت عن البنا في حياته ، ككتاب ( روح وريحان ) للأستاذ أحمد أنس الحجاجي ، وكتابة الأستاذ محب الدين الخطيب عن البنا في مجلة ( الفتح ) مقالاً كاملاً عنه بمناسبة مرور عشرين عاماً على دعوة الإخوان ، وكتابته كذلك يشيد بالكاتبين الشابين : الأستاذ محمد الغزالي والأستاذ سيد قطب .


هذا نموذج أردت أن أضربه لأبين للقارئ كيف كانت بيئة البنا ومناخه العلمي آنذاك من العوامل المساعدة لذلك ، وهو ما انتفى عن طبيعة المناخ العلمي والدعوي فيما بعد .


كما أن الزمن وقتها كان يسمح بالفن الملتزم ، ولا يرى حرجاً من ذلك ، كما رأينا من وضع البنا برنامجاً لأي ضيف يأتي مصر من الخارج أو يصحب الضيف إلى الأوبرا ، وقد حكى ذلك عنه أحد سكرتاريته الحاج محمود أو رية ، وقد ذكر أنهم ذهبوا مرة بأحد الضيوف ، ولم يجدوا عدداً من التذاكر يكفي لدخول الجميع ، فطلب منهم الأستاذ البنا أن يدخلوا ويصحبوا معهم الضيف ، وانتظرهم في مكان آخر إلى نهاية العرض ( 34).


كما كان يذهب للأوبرا في هـذا الوقت أيضاً عدد من علماء الأزهر المبجلين ، وكانوا يقيمون علاقات بالفنانين من أصحاب الفن المحتشم ، كالشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر الذي ذهب إلى الأوبرا وحضر فيها بعض الاحتفاليات ، والغريب أن الشيخ المراغي ذهب للأوبرا في الثلاثينات من القرن الماضي ، ولم ينتقد هذا الصنيع أحد من علماء عصره ، ثم جاءت مرحلة الثمانينات لتكتب مجلة ( التوحيد ) التي تصدر عن جماعة أنصار السنة بمصر لتنبش في ماضي الرجل كاتبة هجوماً حاداً عليه ، جاعلة عنوان المقال : عمائم في الأوبرا !!! ما اضطر ابنه الدكتور إسماعيل المراغي أن يكتب توضيحاً في الفرق بين أوبرا الماضي وأوبرا الحاضر ، وأن أوبرا الماضي كانت تراعي البيئة والالتزام فيها ، فكانت تقدم فناً غير مسفٍّ .


وهناك أيضاً الشيخ مصطفى عبد الرزاق شيخ الأزهر ، المعروف بعلاقته بالفنانين ، وعلى رأسهم محمد عبد الوهاب وأم كلثوم (35).

كما كان بين الفنانين من يحمل لقب شـيخ ، ويباهي به ، ولا يجد حرجاً فيه ، ولا تستنكف الطبقة الفنية من ذلك ، ولا تلفظه وترفضه ، كالشيخ سلامة حجازي ، والشيخ زكريا أحمد ، والشيخ إمام عيسى ، إلى آخر مطرب من طبقة المشايخ الشيخ سيد مكاوي ( 36).

هذه البيئة وهذا المناخ لا شك كان له عامل كبير في نجاح تجربة البنا رحمه الله في الفن .

4 ـ اعتماده على المختصين :

وقد ساعد البنا في نجاح تجربته الفنية ، أنه ارتكز بشكل أساسي على المختصين في هذا الفن ، فقد اعتمد على مختصين في كل شق فني ، بداية بالكتابة المسرحية ، فلم يأتِ بأي كاتب هاوٍ للكتابة الأدبية ، بل كتب معظم مسرحيات مسرح الإخوان آنذاك الأستاذ عبد الرحمن البنا شقيق الأستاذ البنا ، وهو أديب مطبوع ، وكاتب مسرحي معروف بهذا التوجّه ( 37).

كما اعتمد البنا على مختصين في أداء المسرحيات الفنية ، فقد رأينا أعضاء فرقته ـ فيما بعد ـ من عمالقة الفن العربي ، وقد ذكرنا عدداً كبيراً من أسمائهم من قبل .


بل حتى في دعايته للمسرحيات ، كان الأستاذ البنا يعتمد في ذلك على المختصين ، ويقوم بالدعاية الكافية لذلك ، التي تجلب الجمهور لمشـاهدة فن فرقته .

5 ـ تبني قضية الفن جماعياً :

ومن عوامل نجاح تجربة البنا فنياً أنه تبنى قضية الفن ، وجعل منها قضية أولاها اهتماماً ورعاية وعناية ، فقد كان الأستاذ البنا رغم أنه أوكل إدارة أمر الفرقة المسرحية لأخيه الأستاذ عبد الرحمن البنا ، إلا إنه دعا لإنشاء فرق في معظم شـعب الإخوان ، وتمرين طلاب الثانوية والجامعة علـى التمثيل المسرحي ( 38)، بل كان البنا يحضر بنفسـه البروفات والإعـداد للمسـرحيات ( 39)ويولي ذلك اهتماماً كبيراً . وكان العمل الفني عند البنا أشبه ما يكون بالعمل المؤسسي والمختص ، لا من باب الهواية ، أو على هامش الحياة . وهذا هو الفارق بين مسرح البنا ومسرح الإسلاميين بعد البنا


لماذا أخفقت التجربة الفنية بعد البنا ؟

بقي أن ندرس هنا أمراً مهماً ، وهو : إذا نجحت التجربة الفنية في عهد الأستاذ البنا بهذا النجاح المتميز ، فلماذا لم تستمر التجربة بعده وأخفقت فيما بعد ، بل واختفى الفن في جماعة الإخوان المسلمين إلى فترات ليست بالقصيرة حتى بعد خروجهم من السجون في بداية السبعينات ، وحتى محاولاتهم الفنية التي تلت مرحلة السبعينات لا تعدو محاولة الهواة ، وليس العمل الحرفي ، وإن كان هناك تقدم ملموس في هذه الآونة في الفن عند الإسلاميين ، أما عن أهم الأسباب التي أدت إلى إخفاق التجربة بعد الأستاذ البنا ، فهي :


أولاً : تأثر الخطاب الإخواني بالخطاب السلفي :

فالخطاب الإخواني بعد حسن البنا تأثر تأثراً واضحاً بالخطاب السلفي ـ وخاصة التيار السلفي المتشدد ـ وساعد في ذلك أمران :


1ـ سفر عدد من علماء ومفكري الإخوان إلى الخليج ، وتأثرهم بهذا الجو العلمي ، فنضح على كتابتهم وأفكارهم .

2ـ انتعاش البلاد التي تتبنى المنهج السلفي انتعاشاً اقتصادياً ، مما جعل حركة توزيع الكتب المجانية التي تتدعو للمنهج السلفي تغزو البلاد التي كانت في حالة خصام مع هذا المنهج كمصر وبلاد الشام وبلاد المغرب العربي ، مما صنع هذه الأرضية لهذا الفكر . وهو أمر نلمسـه فـي كتابات عدد من مفكري الإخوان ، حتى المعتدلين منهم ، فلا أدري لماذا الإصرار عند عدد من كتّاب الجماعة عند تناول كثير من القضايا العلمية الشائكة التي بين الإخوان والسلفيين ، يحاول الكثير منهم الوصول لنصٍ لابن تيمية ، كي تسكت الأصوات المعترضة ، ومن هؤلاء مَن لهم ثقل لكلامه بدون حتى الاستشهاد بأحد ، ولا أريد أن أذكر مؤلفين بعينهم ، ولا مؤلفات بعينها . وليس معنى كلامي أني أبخسهم حقهم ، بل أعجب من تنامي هذه الظاهرة عند كتّاب ومنظري الإخوان .


فالصواب : أن يكتب المفكر أو العالم ما يكتب ، مستدلاً على ذلك بالكتاب والسنة ، فهما الأصلان اللذان لا يختلف عليهما أحد ، ولا ينبغي أن يعتمد على غيرهما وسيلة للإقناع ، ومن لم يقتنع بالكتاب والسـنة ، فلا يبالي به صدقه أم كذبه ، كائناً من كان ، اقتنع بفكره أم لم يقتنع .


إنني أقدر عبقرية وعلم وجهاد شيخ الإسلام ابن تيمية ، ولكني لست مع هذه الهالة من التقديس لكلام الرجل ، وهو نفسه رحمه الله كان ضد هذا الكلام ، أو أن نعطي لكلام ابن تيمية قوة تعادل قوة النص الشرعي ، بل أعلى منه ، فهذا هو الخطأ وما لا يُقبل بحال من الأحوال ، ولا نريد بذلك ترضية فريق على حساب الحقيقة العلمية والدليل الشرعي .


ثانياً : انتشار مبدأ سد الذرائع :

كما انتشـر بين أبناء الحركة الإسلامية مبدأ: سـد الذرائع، علـى مبدأ (الأصل في الأشياء الإباحة إلا إذا أتى نص يدل على التحريم) أو بالمعنى العامي طغى مبدأ ( الباب اللي يجي لك منه الريح سـده واسـتريح ) علـى مبدأ ( المبادرة والجرأة في التجريب ) أي إغلاق باب المباح ، بدلاً من فتحه ، وذلك خوفاً من أن يفتح بذلك باب للهجوم على الدعوة من خصومها ، ولو كان ذلك على حساب ترك المباح ، أو المختلف فيه ، وما أباحه عدد من العلماء .


ثالثاً : بعض حوادث العنف التي مارسها [[التنظيم الخاص]

والعامل الثالث ، وهو : كم حوادث العنف والقتل التي مارسها التنظيم الخاص من خلف ظهر الأستاذ البنا ، وضد [[أهداف الدعوة]] ، بل وضد مصالحتها ، فقد أفقدت بعض أعمال التنظيم الخاص ـ غير المبررة وغير المسؤولة ـ أهم مساحتين في الدعوة العامة بين الناس والصفوة كذلك ، وهما : فئة الفنانين ، وفئة المثقفين ، فقد توقف هذا المشروع الفني العملاق , الذي لو قدر له الاستمرار لكان للدعوة بين الجماهير شأن آخر . وكذلك كانت هذه الأحداث المؤسفة سبباً في قيام عدد مـن المثقفين الذين كانت علاقتهم بالإخوان علاقة ود وصداقة , ومحبة وتأييد ، إلى علاقة عداء وحرب ، وكانوا خنجراً في ظهر الإخوان وأفكارهم ، فقد صدر أخطر كتاب يهاجم الفكرة الإسلامية ـ والإخوانية خاصة ـ فـي أهم ركن فيها ، وهـي أن الإسلام دين ودولة ، فخرج كتاب الأسـتاذ خالد محمد خالد ( من هنا نبدأ ) الذي أنكر فيه أن للإسلام دولة ، وبين أنه دين فقط ، وليس ديناً ودولة ، ولما عاد الأستاذ خالد عن فكرته هذه ، وبيّن خطأ فكرته القديمة ، بعد اعترافه في كتابه الجديد ( الدولة في الإسلام ) أن [[الاستيعاب في حياة الدعوة والداعية....فتحي يكن|الإسلام دين ودولة]] ، بيّن أن السبب الذي جعله يجنح بعيداُ عن التفسير الحقيقي للإسلام في هذه الفضية ، هي أحداث التنظيم الخاص في نهاية الأربعينات ، يقول الأستاذ خالد محمد خالد رحمه الله : ( أما العمل الثاني الذي شكّل تفكيري وموقفي من الحكومة الدينية فقد كان عاملاً موقوتاً بزمانه ، ولكني جعلت منه قاعدة عامـة بنيت عليه حكمي القديم . ذلك أن الإخوان المسلمين كانوا قد بلغوا في الأربعينات من الكثرة والقوة والنجاح مبلغاً يكاد يكون منقطع النظير .. كانت دعوتهم تسري بين الناس كالضوء ، وكان الشباب بصفة خاصة يقبل عليها إقبال أسراب النحل على رحيق الزهور !! وذات يوم والجماعة في أوج مجدها الباهر ، لا ندري هل انبثق منها ، أو أُقحم عليها وتسلسل إليها ما سُمّي بالتنظيم السري . وارتكب هذا الجهاز جرائم منكرة وتوسل بالاغتيالات لفرض الدعوة .. الدعوة التي كانت قد حققت بالإقناع والمنطق ما لم تحقق دعوة أخرى .. والدعوة التي كانت لباقة مرشدها الأستاذ حسن البنا رحمه الله وإخلاصه يفتحان له الآذان الصم ، والقلوب الغلف ، ويسلسان له قيادة الجماهير كافتهم ومثقفيهم !! لفتت حوادث الاغتيال التي مارسها ذلك الجهار السري انتباه الناس وروعت أفئدتهم ، وكنت من الذين أقضّ مضجعهم هذا النذير . وقلت لنفسي : إذا كان هذا مسلك المتدينين وهم بعيدون عن الحكم ، فكيف يكون مسلكهم حين يحكمون ؟؟ كان هذا هو العامل الثاني الذي جنح بتفكيري إلى التحذير من قيام حكومة دينية باسم الإسلام ) ( 40).


وانقلب الكاتب الكبير عباس محمود العقاد ـ الذي كانت علاقته بالأستاذ البنا علاقة طيبة ـ إلى خصم عنيد وشديد ، وذلك بعد مقتل النقراشي ، فالنقراشي كان صديقاً عزيزاً للعقاد ، فلما قتل على يد بعض أفراد التنظيم الخاص ، انبرى العقاد بقلمه وأسلوبه الحاد يهاجم الإخوان ، ويتهم حسن البنا بأنه ماسوني ( 41)

وكذلك قام بنفس الدور عدد من المثقفين بعد حادث المنشية ، ومنهم من كان صديقاً ودوداً لدعوة الإخوان ( 42.

كل هذه الأحداث كانت كفيلة بإنهاء هذه التجربة الفنية لجماعة الإخوان ، ثم كان ما كان من أحداث ، وتغييب جماعة الإخوانخلف أسوار السجون لمدة بلغت العشرين عاماً .

هذه بعض الأسباب التي منعت تجربة الإخوان الفنية من الاستمرار بنفس القوة التي بدأت بها ، واستمرت لفترة امتدت لعشر سنوات أو أكثر.

الهوامش

1 ـ انظر في تقسيم الفنون كتاب ( فلسفة الجمال والإبداع والفن ) للدكتور محمد علي أبو ريان ، الطبعة الخامسة ، الإسكندرية ، دار الجامعات العربية 1997 . و ( حكم العمل بالفن ) للدكتور صالح بن أحمد الغزالي ، ص ( 31 ، 32 ) طبعة دار الوطن السعودية .

2 ـ من لقاء على الإنترنت مع الدكتور صلاح عبد العال .

3 ـ انظر مقدمة كتاب ( الدليل على حرمة التمثيل ) لأبي الفيض أحمد بن الصديق الغماري ، دار مرهبان للطباعة .

4 ـ انظر مقال ( مسرح الإخوان المسلمين .. البداية رومانسية ) للأستاذ أحمد زين ، منشور على موقع ( إسلام أون لاين ) بتاريخ 19 / 8 / 2003 .


5 ـ انظر المرجع السابق .

6 ـ مقابلة مع الأستاذ فهمي هويدي ، في أستانبول بتاريخ 10 / 7 / 2006 .

7 ـ انظر كتاب ( الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ ) جزء 1 ص ( 288 ، 289 ) .

8 ـ انظر المصدر السابق .

9 ـ انظر ( مسرح الإخوان المسلمين ) لأحمد الزين ، و( الإخوان والفن ) لحسام تمام .

10 ـ مقابلة مع الدكتور صلاح عبد العال على الإنترنت ، ومقابلة مع الدكتور سليمان صالح أستاذ الإعلام بجامعة قطر .

11 ـ ذكر لي ذلك أستاذنا الشيخ القرضاوي ، ثم سجله في مذكراته في الجزء الأول منها

12 ـ انظر كتاب ( مع الإمام الشهيد حسن البنا ) محمود عساف ، ص 39 ، 41 .

13 ـ انظر : حوار مع الحاج محمد نجيب عن ذكرياته مع البنا المنشور على موقع ( إخوان أون لاين . نت ) بتاريخ 14 / 8 / 2006 .

14ـ انظر كتاب ( مع الشهيد حسن البنا ) ص 41 .

15 ـ انظر موقع ( عشرينات ) بتاريخ 4 / 12 / 2005 .

16ـ نُشرت في جريدة ( الإخوان المسلمون ) الأسبوعية في عدد ( 30 ) من السنة الأولى الصادر في يوم الخميس 15 من ذي العقدة 1352 هـ .

17 ـ انظر في مجلة ( الكشكول الجديد ) في العدد ( 17 ) من السنة الأولى ، الصادر في غرة ربيع الأول سنة 1367 هـ ، 12 يناير 1948 .

18 ـ انظر مذكرات الشيخ الغزالي ( قصة حياة ) غير مطبوع .

19 ـ انظر مقال ( لا تخافوا من الإخوان فإنهم يخافون الله ) للدكتور جابر قميحة ، المنشـور في جريدة ( آفاق عربية )

20- كتاب ( منهج الفن الإسلامي ) للأستاذ سيد قطب ، ص 177 ، 180 ، طبعة دار القلم ( الشروق فيما بعد ) .

21ـ ذكره الفاكهي في أخبار مكة ( 3 / 203 ) برقم ( 1973 ) وابن حجر فـي الإصابة ( 1 / 251 ) و( 8 / 51 ) عن ابن عباس رضي الله عنهما . وابن عساكر في تاريخه عن سعيد بن المسيب مرسلاً ، انظر فيض القدير ( 5 / 517 ) .

22- البخاري ( 3628 ) ومسلم ( 2256 ) وابن أبي شيبة في مصنفه ( 5 / 272 ) برقم ( 26015) عن أبي هريرة رضي الله عنه .

23ـ انظر : فيض القدير ( 1 / 524 ) .

24 رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ( 5 ، 272 ) برقم ( 26012 ) .

25 انظر صحيح مسلم بشرح النووي ( 15 / 13 ) .

26- ابن إسحاق في السيرة كما في ابن هشام ( 1 / 92 ) وقال الشيخ الألباني في تخريجه : وهذا سند صحيح لولا أنه مرسل ، ولكن له شواهد تقويه ، فرواه الحميدي بإسناد آخر مرسلاً أيضاً كما في البداية ( 2/ 92 ) وأخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم ( 1655 ) و ( 1676 ) من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعــــاً دون قوله : " ولو دعيت به في الإسلام لأجبت " وسنده صحيح . انظر : فقه السيرة للشيخ الغزالي بتحقيق الشيخ الألباني ص 82 . طبعة إدارة إحياء التراث الإسلامي بدولة قطر .


27ـ رواه أحمد ( 3 / 131 ) والبخاري ( 69 ) ومسلم ( 1734 ) عن أنس بن مالك رضي الله عنه .

28 - رواه أحمد ( 6 / 181 ) والبخاري ( 6404 ) ومسلم ( 2327 ) عن عائشة رضي الله عنها .

29-رواه أحمد والبيقهي في السنن عن ابن عمر ، والطبراني في الكبير عن ابن عباس وابن مسعود . انظر : وصححه الشيخ الألباني في : صحيح الجامع الصغير برقم ( 1881 ) .

.3- رواه أحمد وابن حبان والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر . وصححه الشيخ الألباني في : صحيح الجامع الصغير برقم ( 1882 ) .

31 رواه ابن أبي شيبة عن محمد بن المنكدر برقم ( 6528 ) انظر : المصنف لابن أبي شيبة ( 9 60 ).

32 انظر : المصنف لابن أبي شيبة ( 9 / 59 ، 60 ) .

33 انظر : مجلة ( المجتمع ) الكويتية العدد ( 1319 ) الصادر في 9 من جمادى الآخرة سنة 1419 هـ ـ 29 من سبتمبر سنة 1998م . وما بعده من أعداد .

34 نقل لي ذلك : الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح عن الحاج محمود أبو رية رحمه الله .

35انظر : كتاب الدكتورة نعمات أحمد فؤاد عن أم كلثوم .

36ظر : كتاب ( طلائع المسرح العربي ) لأستاذ محمود تيمور .

37صدرت رسالة ماجتسير عن ( المسرح عند عبد الرحمن البنا ) من كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر .

38من مقابلة مع الأستاذ فهمي هويدي في أستانبول بتاريخ 10 من يوليو سنة 2006م .

39-لقاء على الإنترنت مع الدكتور صلاح عبد المتعال .

40انظر كتاب ( الدولة في الإسلام ) للأستاذ خالد محمد خالد ص 1، 15 . طبعة دار ثابت الأولى صفر سنة 1401 هـ . يناير سنة 1981م . ومذكراته المعنونة بـ ( قصتي مع الحياة ) ص 373 ـ 374 . طبعة دار أخبار اليوم .

41 انظر سلسلة مقالات الأستاذ رجاء النقاش عن العقاد في جريدة ( الأهرام ) المصرية العدد ( 43560 ) الصادر في 12 صفر سنة 1427هـ ـ 12 من مارس سنة 2006 , وما بعدها من أعداد .

42 انظر ـ كتيب ( هؤلاء هم الإخوان ) وقد اشترك فيه مجموعة من الكتاب ، اتفقوا جميعاً على قذف الإخوان وهجومهم ، وهم : طه حسين ، ومحمد التابعي ، وعلي أمين ، وكامل الشناوي ، وجلال الدين الحمامصي ، وناصر الدين الشاشيبي .


المصدر : رابطة أدباء الشام


خاطئة لممارسات بعض الاتجاهات الإسلامية، واستجابة أيضاً لميراث تاريخي أيديولوجي محمل بحقد غريب على الإسلام، وتوجس منه لا تسانده أي مبررات موضوعية.

من المهم أولاً في هذا السياق أن نركز على أن الفهم الصائب للإسلام، فكراً وسلوكاً، سيصحح تلقائياً مجموعة من أوجه الخلل والقصور داخل المجتمعات الإسلامية ذاتها، ثم في فهم الآخر (غير المسلم) للإسلام، فمن واقع مشاهداتي اليومية استطعت أن أرصد ذلك التباين بين ما يتبناه بعض القوى السياسية والفكرية الإسلامية وبين صحيح الإسلام ديناً وعقيدة ومنهج حياة، فبعضهم يرى أن العلاقة مع "الآخر" هي حصراً علاقة عداء وكراهية، وأن كل "الآخر" كتلة واحدة لا تتميز عن بعضها، وأن "الكفر ملة واحدة" لا في الحساب الأخروي فحسب وهذا هو الصحيح بل في الدنيا أيضاً، وهذا يعني من وجهة نظرهم أن نتعامل مع كل من هو غير مسلم بالعداء نفسه ولا نقبل منه حسنة ولا نميز أحداً عن أحد ما لم يقر بالشهادتين ويؤدِّ الشعائر بدقة تامة!

في المقابل هناك أصوات غربية (أمريكية خصوصاً) تدعي أن الإسلام عدو للحضارة الغربية وهذه سمته الأولى والأخيرة، بحيث لا يمكن الحوار معه، وليس من إمكانية لإيجاد نقاط التقاء معه (فكأنها مقلوب لنظرة بعض المسلمين التي ذكرتها)!

من منظور آخر نجد أن المظاهرات المليونية التي اجتاحت شوارع العالم مطالبة بإيقاف الحرب على العراق وشاجبة دعاتها، كانت حركة عالمية هائلة لم يسبق لها مثيل، ترافقت معها حركة متطوعين من بلاد الغرب لدعم الانتفاضة الفلسطينية، بل ذهبت واحدة منهم مؤخراً هي الأمريكية "راشيل كوري" ضحية لموقفها الإنساني النبيل حين اجتاحها البلدوزر الصهيوني الذي كانت تحاول منعه من هدم بيت فلسطيني، كل هذه الفاعليات تثير في الذهن سؤالا ًمهماً: هل هذه الملايين حقاً عدوة يجب أن نكرهها وفق التأويل الشائع لعقيدة "الولاء والبراء" ولا نقبل منها إلا ما كان صادراً عن الجزء المسلم في هذه الملايين؟

هنا يشعر المرء بوضوح أن علينا إعادة صياغة بعض المفاهيم مثل صيغة "المفاصلة" وصيغة "الكفر ملة واحدة" إلى آخره.

بهذا المفهوم: كيف نضع في "سلة واحدة" كلاً من راشيل كوري وجورج بوش؟!


الإسلام والقابلية للإسلام

لكي نعالج هذه القضية من جذورها علينا أن نعي أولا أن الإسلام حين يجيء إلى الفرد لا يأتيه من الخارج فقط، بل لأن الفرد، أي فرد، عنده "قابلية للإسلام" فكأن عنده "إسلاماً كامناً" في حالة جنينية تنتظر أن تتفتح بكامل أبعادها عند قبول الرسالة النبوية. يأتي [[الإسلام]] فيتجاوب مع هذه الحالة الكامنة وتتجاوب معه، وكلما كان المرء أقل تشوهاً في فطرته كانت قابليته للإسلام أقوى فاعلية (الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)، وإذا كان الإسلام "كامناً" بهذا المعنى عند غير المسلمين، فإنني أجد من الحماقة الاعتقاد السائد عند بعض التيارات في بعض البلاد بأن المسلم يجب أن يكره كل من يخالفه في العقيدة، فإن كنت تكرهه فكيف ستدعوه إلى الإسلام؟!


وهذا "الإسلام الكامن" له مرتكزات أساسية هي

1- الفطرة

إذ إنه عز وجل يخبرنا أنه أخذ العهد على الناس قبل خلقهم: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون (173)} (الأعراف).

والتجربة تشهد أن النزعة إلى التدين موجودة عند البشر جميعاً على اختلاف ثقافاتهم وظروفهم ولغاتهم، وهذا المشترك في الإنسان يجب أن نتذكره دوماً حين لا يرى بعضنا من طريقة لإقناع غير المسلمين بالإسلام إلا العنف!

إن الإسلام ليس شيئاً غريباً على الناس لنفرضه عليهم بالقوة، بل هو شيء موجود كامن في داخلهم بمكوناته الكبرى!


2- العقل

وهو مشترك في البشرية أيضاً، فالله عز وجل يطلب من البشر الاستناد إليه إن لم يكفهم هذا المرشد الفطري الداخلي لأمر من الأمور، والدعوة إلى التفكر والاستنتاج في القرآن الكريم أمر معروف لا نحتاج إلى ذكر الشواهد عليه، فهي أوضح من أن تخفى على أحد.


3- الأخلاق الفطرية

على كثرة النظريات المتعلقة بأصل الأخلاق تظل الحقيقة أن الأخلاق لا يمكن تفسيرها تفسيراً خارجياً (على طريقة المذهب النفعي والمذهب المادي التاريخي إلى آخره). والنصوص القرآنية توحي في اعتقادي بهذا الأصل الفطري للأخلاق ومن ذلك قوله تعالى يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث (الأعراف:157) فالله تعالى سمى قواعده التي قررها على البشر للسلوك القويم "معروفاً"! وسمى ما نهى عنه "منكراً"! ومن التنطع القول إن المعروف (كاسم مفعول اشتق من فعل مبني للمجهول) فاعله الله عز وجل! بل المعروف هو ما عرفه الإنسان بفطرته السوية التي وضعها الله فيه وكذلك المنكر هو ما تنكره الفطرة السوية!

بل الأصل العام في الشريعة أنها جاءت لجلب المصالح ودرء المفاسد.(1)

ومن هنا كان المشركون العقلاء يقرون فوراً للإسلام بأنه ما دعا إلا إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال!

روى ابن ماجه عن علي رضي الله عنه قال: "أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب فخرج، فوقف على مجلس قوم من شيبان بن ثعلبة في الموسم، فدعاهم إلى الإسلام وأن ينصروه. فقال مفروق بن عمرو: إلام تدعونا أخا قريش؟ فتلا عليهم النبي ص: إن الله يأمر بالعدل والإحسان، (النحل:90). فقال: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك".(2)

مَن مِن البشر ذوي الفطرة السليمة لا يرى أن العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى أخلاق محمودة، وأن عكسها: الظلم والإساءة ومنع ذوي القربى أخلاق ذميمة!


[[الإسلام]] ليس قطيعة مع العالم

من أسوأ ما دخل على الفكر الإسلامي في العصر الحديث فكرة أن الإسلام يشكل قطيعة كاملة مع المجتمع غير المسلم، بل طلب بعض الكتاب من المسلمين فصل أنفسهم كلياً عن هذا المجتمع ووضع حاجز لا يخترق بينهم وبينه، وهذا التفكير خطأ مبدئياً وضار عملياً، فالإسلام ليس قطيعة مع العالم، بمعنى أنه مختلف كلياً عنه وأنه ليس هناك أي نقاط مشتركة بين التعاليم الإسلامية وواقع الناس غير المسلمين، بل هو تواصل مع هذا العالم وتجاوب مع طبيعة عميقة كامنة فيه، والدعوة الإسلامية من هنا لا تأتي للمدعوين بشيء غريب كل الغربة عنهم، والتعليم القرآني عن كيفية الدعوة يدل على هذا المفهوم: ادع إلى" سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن (النحل:125).

هذا الجدال الذي تدل عليه الآية الكريمة يُبنى حتماً على مفاهيم مشتركة متفق عليها، فلكي يفهم بعضنا بعضاً كبشر لابد أن تكون بيننا نقاط مشتركة يمكن العودة إليها، ومعايير مشتركة موضوعية تخص التجربة الواقعية في العالم، ومن هنا نقول: إن الإسلام تواصُل مع العالم وليس قطيعة كلية معه! بل نزيد على ذلك: إنه تواصُل مع ما هو جوهري في العالم وقطيعة مع ما هو عرضي، إذ إن الأصل الفطري في الإنسان إسلامي، فالمولود يولد على الفطرة ثم يتولى الأبوان والمجتمع تعديل هذه الفطرة بدرجات مختلفة، كما نص على ذلك الحديث.

وإن المرء ليعجب من قوم يسمون أنفسهم دعاة للإسلام يتعاملون مع الناس بكل فظاظة وشراسة، بل تحس أنهم يكرهون الناس، وهؤلاء الناس هم مجتمع الدعوة وحقلها! بل ويبحثون لهم عن زلات ويجتهدون في إثبات أنهم غير مسلمين إن كانوا مسلمين، فكأن شغلهم الشاغل تقليل عدد المسلمين وتكثير عدد الكفار، فلا تجد عندهم إلا الغرام المريض بالتكفير، فلم يكد يسلم منهم عالم، ناهيك بالعوام والفرق الإسلامية! ومن العجب حقاً أن نقلد خطاب تلك الدوائر العدوانية الاستعمارية التي تريد محاربة كل من يخالفها ويقف في وجهها (قد نفهم الظروف التي ينشأ فيها فكر الغلاة هذا، ولكن علينا ألا نبرر هذا الفكر وإن تفهمنا أنه كثيراً ما يكون رد فعل مرضياً على العدوان الخارجي فكأنه رد خاطئ على خطيئة الآخرين).

إن الداعية للناس كالطبيب، والطبيب يجب أن ينطلق من خلفية نفسية هي محبة المريض وليس كراهيته وتمني موته! ولعل القصة المروية عن المسيح عليه السلام توضح هذه الحقيقة فقد رووا أن أعداء المسيح أخذوا عليه كثرة تردده على المخطئين وأصحاب المعاصي فقال لهم: هل يزور الطبيب إلا المرضى؟ وقد حصر الله عز وجل وظيفة نبي الإسلام بل وظيفة الإسلام ذاته بأنها رحمة للعالمين فقال: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين 107 (الأنبياء:107). ولأن الإسلام ليس قطيعة مع العالم فهو لم يرفض كل ما ينتجه المجتمع غير المسلم من أخلاق!

روى الحميدي عن سفيان عن عبد الله عن محمد وعبدالرحمن ابني أبي بكر قالا: قال رسول الله ص: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت. تحالفوا أن ترد الفضول على أهلها، وألا يعز ظالم مظلوماً". (سيرة ابن هشام).

فالنبي ص أقر هذا الحلف لأن قاعدته الأخلاقية تتطابق كل التطابق مع تلك الأخلاق الفطرية التي هي جوهر الأخلاق الإسلامية! ولا أعتقد (وهذه مسألة مهمة جداً) أن الحكم سيختلف لو تعلق الأمر بأي اتفاقية أخرى تنشئها الدول وفيها نصرة للمظلوم ورد للظالمين، فالدول الإسلامية يجب أن توقع على كل اتفاقية تصون كرامة البشر وتمنع استباحة حقوقهم المادية والمعنوية، ومن أغرب الأمور أنني لم أر من يسمون في بلادنا بالإسلاميين قد علقوا بخير أو شر على هذه الحركة العالمية الموجودة الآن لمناهضة العولمة المتوحشة والداعية إلى علاقات عادلة بين الدول الغنية والدول الفقيرة، مع أنني أحسب أن حركة هؤلاء تماثل حركة القوم الذين عقدوا حلف الفضول في دار عبد الله بن جدعان، فما بال المسلمين يدعون إلى هذا الحلف فلا يجيبون؟! ولعمري لو دعي إلى مثله النبي ص لأجاب كما أخبرنا عليه السلام بنفسه!


نظرة منصفة للآخرين

لا أعلم من أين جلب هذا التيار الذي ذكرته آنفاً الفكرة القائلة: إن كل غير المسلمين سواء، لا فرق بينهم، مع أن كل نصوص الإسلام وممارسات المسلمين الأوائل تناقض هذا الفهم، فالقرآن الكريم لم يقسم العالم إلى لونين: أبيض وأسود، فقد فرق القرآن بين مشركين معاهدين وغير معاهدين وبين مسيحيين ويهود وصابئة ومجوس، ولكل منهم حكم مختلف، بل أخبرنا أنه لا ينهانا عمن لم يقاتلنا في الدين ولم يخرجنا من ديارنا أن نبره! وعمى الألوان هذا يقود إلى نتيجتين كل منهما أسوأ من الأخرى كما يقال:

الأولى أن المسلمين يتوقفون عن محاولة فهم العالم ومعرفته، فكيف يثمر جهد أي داعية لا يريد أن يعرف خصوصيات من يدعوهم وأفكارهم وظروفهم وتاريخهم، إذ يستوي عنده إن كان المدعو هندياً أو صينياً أو روسياً أو برازيلياً، بدعوى أن الكفر ملة واحدة! ولعلنا نرى هنا التخلف المريع للمسلمين قياساً لغير المسلمين، إذ لدى الآخرين معاهد تقوم بالبحث الدقيق في المجتمعات الأخرى وتفاصيل بُناها الفكرية والاجتماعية وتاريخها إلى آخره.

ولو كان القرآن يريد أن يعلم المسلمين عدم التمييز لما علق في بداية الدعوة على حرب الروم والفرس، بل عد نصر الروم الذي سيحصل بعد سنين نصراً يفرح به المؤمنون!

ولو كان العالم كله مثل بعضه لما اختار المسلمون الحبشة للهجرة ولقالوا كما يقول هؤلاء الشرسون في عصرنا: الكفر ملة واحدة، فلا فرق بين النجاشي وأبي جهل! على حين أن النبي ص ميزه فقال: "إن الناس لا يُظلمَون عنده" بخلاف مشركي مكة.

والنتيجة الثانية أن المسلمين بعمى الألوان هذا يرتكبون الظلم الذي نهى الله عنه، فهل يستوي من يناضل في سبيل العدالة ومن يبذل كل جهده لظلم شعوب بأكملها! وهذا ما نراه بالفعل حين يدعو غير المتبصرين دعوة عامة على النصارى فيضعون علامة مساواة بين إدارة بوش المتطرفة وملايين الناس في البلاد المسيحية الذين وقفوا ضدها وأدانوا عدوانيتها وسعيها الدؤوب إلى شن الحروب على المستضعفين من شعوب الأرض. ولعلي هنا أشير مجرد إشارة إلى نتيجة ثالثة لهذه الطريقة العمياء في النظر إلى العالم وهي عزل المسلمين وتسهيل مساعي الدوائر العدوانية والصهيونية التي تحرض على حرب حضارية تشن على العالم الإسلامي بمجموعه. المسلمون معنيون بمصير العالم

المسلمون بطبيعة الحال جزء لا يتجزأ من العالم، ويسري عليهم ما يسري على العالم من قوانين موضوعية، وهم بالضرورة معنيون بمصير العالم أكثر من غيرهم، فرسالة الإسلام هي الرسالة الخاتمة، وكل المسلمين مكلفون بالدعوة إلى إسلامهم، وإشاعة روح المودة والتسامح بين بني البشر، ومن هنا علينا أن نركز على ثلاثة أمور مهمة؛ إن أردنا لهذه الروح الإصلاحية أن تسود وتؤتي أكلها:

1 المجتمع الإسلامي تسري عليه القوانين الموضوعية: فهو مثل أي مجتمع بشري مضطر لأن يبني بنية اقتصادية ويقوم بمبادلات اقتصادية مع المجتمعات الأخرى وتكون له سياسة نقدية تتأثر حكماً بأوضاع النقد العالمي، والدول الإسلامية مضطرة طبعاً إلى الدخول في اتفاقيات تتعلق بكل هذه الجوانب مع دول العالم، وهي مأمورة بالنص الشرعي بالوفاء بالعهود. ولكن لابد من الإشارة هنا إلى أن السياسة الخارجية للدول الإسلامية يجب أن تبنى على القاعدة الأخلاقية الإسلامية وليس على مجرد النزعة المصلحية المكيافيلية المألوفة في السياسة الحديثة.

2 المجتمع الإسلامي معني بالمصلحة العامة للبشرية: فالمسلمون مثل غيرهم معنيون مثلاً بوقف تلوث البيئة، ومن هنا ووفق قاعدة "لا ضرر ولا ضرار" وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، فهم يقفون بالضرورة مع تلك القوى العالمية التي تريد التوقف عن تلويث البيئة، وضد تلك القوى التي لا تمانع في تسميم بيئة العالم إن توافق هذا مع مصالحها الأنانية كما في موقف الإدارة الأمريكية من اتفاقية كيوتو.

3 البحث عن نقاط الالتقاء: ففي كل ما نقرؤه من أحداث السيرة النبوية، نجد أن المسلمين تحت قيادة النبي ص ما كانوا يترددون في عقد التحالفات مع غير المسلمين إن كانت هناك نقاط مشتركة أو مصالح متبادلة توجب التحالف.

ومن العجيب حقاً أن نرى بعض التيارات الإسلامية يعيب على الفلسطينيين أن يقيموا جبهة واحدة مع مواطنيهم المسيحيين في الدفاع عن الأرض ضد الاحتلال.

وحديث الدفاع عن الأرض حديث ذو شجون، فكثير من الإسلاميين يعيبون على الفلسطينيين حديثهم عن الدفاع عن الوطن، مع أن النبي ص أخبرنا أنه "من قتل دون ماله فهو شهيد"، هذا من قتل دون ماله الخاص فكيف لو قتل دفاعاً عن وطن يخصه مع غيره من الناس؟

إذا كنت أدعو المسلمين إلى المشاركة بفاعلية في التحالف مع تلك القوى العالمية التي تناهض الحرب والعدوان وتدعو إلى إزالة العلاقات الظالمة بين الدول الكبرى والدول الصغرى، فإنني من باب أولى أدعو المسلمين في بلادنا إلى تأييد التحالف مع تلك القوى التي تناضل ضد الصهيونية في سبيل الاستقلال وإنهاء التبعية، على شرط ألا تكون هذه القوى معادية للإسلام أو تتخذ من الإسلام عدوها الأول، وفي هذا السبيل لابد من ذكر التعاون الذي جرى في السنين الأخيرة بين القوميين والإسلاميين في مسائل منها مناهضة التطبيع مع الصهيونية والدعوة إلى احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان في البلاد العربية. بل التجربة تثبت أن التعاون والحوار بالحكمة والموعظة الحسنة جعل عدداً من العلمانيين النزيهين ينتقلون إلى صف الدين (من أمثال عادل حسين يرحمه الله، ومنير شفيق وغيرهما).

ثمة واقع جديد يتطلب نظرة جديدة تنقي الثوابت الإسلامية من الشوائب المسبقة التي سادت في الفترة الماضية وتحولت إلى مسلّمات (بعض هذه الأفكار يفسر وجودها طبيعة العلاقات السياسية داخل البنى العربية، وبعضها الآخر تم زرعه بكل خبث من قبل القوى الخارجية بالتواطؤ الذي أقدمت عليه أنواع من السلطة) ومن هنا وجدنا في الحرب العراقية الأمريكية وبصورة غريبة تأثير هذه الأفكار حيث لا يرى بعض المتدينين في البلاد العربية خطورة الدور الأمريكي بدعوى أنه كان يواجه حكومة كافرة! والحقيقة أن مواجهة هذه الأفكار مهمة قد لا تقل صعوبة عن مواجهة الغزو الإمبريالي الأمريكي.

وباختصار مجمل نقول: خلافاً لهذه الأفكار المسبقة، ليس الإسلام خصماً لا للديمقراطية ولا لفكرة الدفاع عن الوطن ولا لحق المرأة في تبوؤ المناصب الرسمية والتشريعية، وأعجبني في هذا السياق رد حزب التجديد والعدالة المغربي لمن طالبه من بعض الأقطار العربية بإبراز دليل تحليل مشاركة المرأة في هذه المجالس فطالبهم هو بإظهار دليل التحريم لأن الأصل في الأشياء الحل!


الهوامش

1 حقيقة أن الشريعة جاءت لجلب المصالح ودرء المفاسد قررها عدد كبير من فطاحل علماء الأصول وانظر من العلماء المحدثين مثلاً :

محمد الطاهر بن عاشور، "مقاصد الشريعة الإسلامية"، الشركة التونسية للتوزيع، 1978، ص63وما بعدها.

وانظر أيضاً :

أحمد الريسوني، "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي"، المعهد العالمي للفكر الإسلامي،ا لطبعة الرابعة، هيرندن (الولايات المتحدة) وهو في هذا الكتاب ينافح مراراً عن رأيه في أن "مقاصد الشريعة تلخص وتجمع في جلب المصالح ودرء المفاسد"، ص255 وما بعدها.

2 أحمد الريسوني، الكتاب السابق (ص263 293).