الإخوان المسلمون والسياسة الحزبية (2)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لم تعد النسخة القابلة للطباعة مدعومة وقد تحتوي على أخطاء في العرض. يرجى تحديث علامات متصفحك المرجعية واستخدام وظيفة الطباعة الافتراضية في متصفحك بدلا منها.
الإخوان والسياسة الحزبية (2)


تقديم

الإمام البنا وسط إخوانه وتلامذته

تحدثنا في الحلقة السابقة عن مفهوم السياسة عند الإخوان، ونظرًا لأن كثيرًا من الباحثين والكتاب التبس عليهم طبيعة فهم الإخوان للسياسة في بداية نشأتهم؛ مما دفع الكثير أن يتهم الإخوان أنهم نشأوا كجماعة دينية تدعو إلى الدين، ثم إذا أغراهم الوضع دخلوا معترك السياسة، وهذا فهم خاطئ؛ لأن الإخوان منذ نشأتهم لم يفرقوا بين جانب من جوانب الحياة، سواء الدينية أو السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، وهذا واضح في رسالة التعاليم التي كتبها الإمام البنا؛ لتكون نبراسًا ومنهاجًا يسير عليه الإخوان، بالإضافة أن السياسة التي رفضها الإخوان في بداية نشأتهم، هي السياسة الحزبية التي تفرِّق الأمة ولا تجمعها، وتفتِّت كلمتها أمام العدو المتربص بالبلاد والشعوب، ومن ثم طالب الإخوان بالبعد عن السياسة الحزبية وتوحيد جهود الأمة.


أما السياسة بمعناها الشامل، فمنذ أول يوم نشأت فيه الجماعة والإخوان يمارسون العمل السياسي، من تقديم النصح للملك والحكومات والهيئات والمؤسسات، وخلال هذه السطور، والسطور القادمة سنعيش حول جهود الإخوان في النصح والإرشاد للحكومات والتصدي لمفاسدهم.


محمد محمود باشا

وفي هذه الحلقة نتعرف على جهود الإخوان مع وزارة محمد محمود باشا، ومحمد محمود باشا ولد في ساحل سليم مركز "أبو تيج" بأسيوط في ٤ أبريل ١٨٧٨م، أتمَّ دراسته فيها عام ١٨٩٧م، ثم التحق بعد ذلك بكلية باليول جامعة أكسفورد بإنجلترا، وحصل على دبلوم في علم التاريخ، وهو أول مصري تخرَّج من جامعة أكسفورد، وعقب عودته من إنجلترا عُيِّن وكيل مفتش بوزارة المالية (١٩٠١- ١٩٠٢م)، ثم انتقل إلى وزارة الداخلية، وعُيِّن مساعد مفتش عام ١٩٠٤م، ثم سكرتيرًا خصوصيًّا لمستشار وزير الداخلية الإنجليزي عام ١٩٠٥م.


شكَّل وزارته الأولى، وتقلَّد فيها منصب وزير الداخلية؛ ليمارس سياسة اليد الحديدية (من ٢٥ يونية ١٩٢٨- ٢ أكتوبر ١٩٢٩م)، وأصبح رئيسًا للأحرار الدستوريين (من ١٩٢٩- ١٩٤١م)، ثم عُيِّن رئيسًا للوزارة للمرة الثانية، واحتفظ فيها أيضًا بمنصب وزير الداخلية (من ٣٠ ديسمبر ١٩٣٧- ٢٧ أبريل ١٩٣٨م)، وفي هذه الوزارة أجرى الانتخابات وزوَّرها لصالحه، ثم شكَّل وزارته الثالثة (من ٢٧ أبريل- ٢٤ يونية ١٩٣٨م)، واستمر في استخدام سياسة القوة، وأخيرًا شكَّل وزارته الرابعة (من ٢٤ يونية ١٩٣٨- ١٨ أغسطس ١٩٣٩م).


جهود الإخوان مع وزارة محمد محمود باشا

عندما تولَّت وزارة محمد محمود باشا الوزارة أعلن الإخوان موقفهم منها، ففي افتتاحية العدد الأول من مجلة (النذير) 30 مايو 1938م، يقول الإمام حسن البنا: "فنحن حرب على كل زعيم، أو رئيس حزب، أو هيئة لا تعمل على نصرة الإسلام، بمثل هذا الأسلوب نخاطب الناس، ونكتب لرفعة النحاس باشا، ومحمد محمود باشا، وعلي ماهر باشا، وحسين سري باشا، وغيرهم ممن نريد أن نعذر إلى الله بإبلاغهم الدعوة، وتوجيههم إلى ما نعتقد أن فيه الخير والصواب لهم وللناس".


بهذا المبدأ تعامل الإخوان مع هذه الحكومة، فنجد الإمام البنا تحت عنوان: "مذكرة الإخوان المسلمين إلى رفعة رئيس الوزراء" يطالب فيه حكومة محمد محمود بالتصدي للجهل، والرذيلة، والفقر، والضعف الخلقي والصحي والثقافي المتفشي في كل مكان، فيقول: "يا صاحب الرفعة!! إن الدواء بين أيدينا، أثبت فائدته البحث والنظر وأيدهما التاريخ والعمل، وليس بيننا وبين الشفاء والقوة إلا أن تمتد يد جريئة مخلصة إلى هذا الدواء، فتؤمن به إيمانًا عميقًا، وتتعاطاه، وتقدمه للأمة في وضوح، وفي جرأة، وفي إلزام، وليس ذلك الدواء إلا تعاليم الإسلام وتشريع الإسلام، وكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.


يا صاحب الرفعة!! إذا كانت الوزارة تخشى أن تُوصف بأنها وزارة إسلامية، وتحسب حسابًا لهذه التهمة، وتحب أن تظهر أمام الناس بمظهر البعيد عن الإسلام الذي لا يعنيه أمره ولا يهتم لشأنه، فيا لضيعة الآمال، ويا لطول شقاء هذا الشعب الذي لا يريد قادته أن يستقيموا به على الصراط المستقيم: ﴿صِرَاطِ اللهِ الذي لَهُ مَا في السَّمَوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ﴾ (الشورى: من الآية 53). وكأنهم جميعًا في ذلك على اتفاق سواء.


يا صاحب الرفعة!! لا تظنوا الشعب المصري ضعيفًا إن وجد القائد، وأقسم لكم أن لو سرتم به في طريق الفضيلة والخلق والإسلام الصحيح لوجدتم منه شعبًا هو أبسل الشعوب، يجود بالنفس وبالمال في حماية عقيدته، والذود عن حياضه، والسير وراءكم إلى النهاية في سبيل هذا الإصلاح، فأعلنوها كلمة باسم القرآن الكريم، وارفعوها رايةً ترفرف عليها روح رسول الله صلى الله عليه وسلم.


يا رفعة الباشا!! بعد هذا التقديم أستطيع أن أتقدم إليكم ببعض المقترحات العملية:


- القدوة أولاً، وإصلاح الروح العام... إصلاح منابع الثقافة العامة... إصلاح القانون... القضاء على الموبقات... الانتفاع بوقت الفراغ... توحيد القوى والجهود... ذلك يا صاحب الرفعة!! ما بدا لنا في الموقف الحاضر رفعناه إليكم، ولنا بعده مقترحات في الناحية الإدارية والاقتصادية، وما إليها ندعها الآن حتى نرى ما يكون من أثر هذا الخطاب، وإنا لتحقيق هذه الوجوه الإصلاحية لمنتظرون، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".


وكتب ناصحًا للحكومة تحت عنوان: "أيها الزعماء!! عدِّلوا النفوس قبل المناصب، أصلحوا القلب يصلح الرجال والأعمال، الرجوع إلى الحق خير من هذا الباطل".. قال فيها: "أيها الزعماء والوزراء والمترقبون والمنتظرون والآملون والمرشحون لمناصب الحكم ومظاهر السلطة!! ما دمتم ضعاف العزائم والإرادات فلن تصلح على أيديكم مصر، وما دمتم تحبون أنفسكم أكثر من هذا الوطن، وتعملون لمصالحكم الشخصية أكثر مما تعملون لهذه الأمة، وتؤثرون التردي في هذه الهوات النفسانية، وتخشون الناس أكثر مما تخافون الله، وتجاملون الإنجليز والأجانب وغير المسلمين أكثر مما تجاملون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأمته من بعده.. ما دمتم هكذا متحاقدين متباغضين، منصرفين عن الجد إلى اللهو والعبث، منغمسين في الحفلات والولائم، والتنقلات ما بين مصر والإسكندرية، لا يسمع الشعب منكم إلا الخطب والوعود والكلام، فلن تصلح على أيديكم مصر، ولن تحققوا لها أملاً صغيرًا أو كبيرًا، وسيظل هذا التعديل كل يوم وكل وقت؛ مهما كان لون الوزارة، ومهما كانت أشخاص الوزراء".


وعندما صدر الكتاب الأبيض: رفضه الإخوان شكلاً وموضوعًا، فاعترض الأستاذ البنا- رحمه الله- على إصدار بريطانيا لهذا الكتاب دون مشورة أحد من الزعماء ورؤساء الحكومات والوفود العربية المشاركة في المؤتمر، ورأى في ذلك إهانة لهم واستهتارًا بهم، كما رأى في محتواه تضييعًا لحقوق العرب المسلوبة، وإهدارًا لمصالحهم المغتصبة، كما رأى فيه استمرارًا لسياسة الخداع، والمناورة التي تتبعها الحكومة البريطانية تجاه قضية فلسطين. فأرسل إلى رئيس الوزراء رسالة جاء فيها: "حضرة صاحب المقام الرفيع محمد محمود باشا رئيس الحكومة المصرية.. أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد عبده ورسوله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.


أما بعد.. فقد نشرت الصحف نص الكتاب الأبيض الذي أصدرته الحكومة الإنجليزية عن فلسطين، وقرأ الإخوان المسلمون ذلك الكتاب المشئوم في ألم واستنكار وثورة.. أما الألم فلتلك النكبات المتلاحقة التي تحل بفلسطين الأبية المجاهدة، ذلك الجزء العزيز الغالي من الوطن الإسلامي العام.. وأما الاستنكار فلذلك التحدي الصريح لشعور المسلمين، وتلك الإهانة القاسية لزعمائهم ورؤساء حكوماتهم، ولقد كان للحكومة المصرية من هذه الإهانة الحظ الأوفر؛ إذ ساهمت في محادثات لندن والقاهرة بأكبر نصيب.. وأما الثورة فسأكون- يا صاحب المقام الرفيع- صريحًا معكم في بيانها إلى أبعد حدود الصراحة..


منذ قامت الثورة الإسلامية بفلسطين، والإخوان المسلمون يساهمون مع جنود تلك الثورة الرائعة الكريمة بأموالهم- وإن قلَّت، وجهودهم- وإن انحصرت في نطاق ضيق، وكنا نحاول دائمًا أن نهدئ من ثائرتهم، آملين أن تصل الحكومات العربية إلى حلٍّ لقضية الإسلام والعروبة يحقق للمسلمين آمالهم، وللعرب حقوقهم.


ولقد شجعنا على انتهاج سبيل التهدئة ما كنتم تصرحون به رفعتكم من أن مصلحة القطر الإسلامي الشقيق تقتضي سير المفاوضات في جو هادئ، ولقد كنا متوقعين برغم ذلك- طوال تلك الفترة العصيبة- من أن الإنجليز واليهود لن يفهموا إلا لغة واحدة هي لغة الثورة والقوة والدم.. ولكننا تحاشينا أن نتعجل الحوادث حتى لا يكون لأحد حجة علينا إن اضطرتنا الحوادث- فيما بعد- إلى أن نسلك السبيل الذي ترضاه ضمائرنا.


والآن وقد جاهر الإنجليز واليهود في كل أنحاء العالم حتى يهود أمريكا التي تتخذ الحياد شعارًا لها في كل مشاكل العالم، الآن وقد جاهر الإنجليز واليهود المسلمين بالعداء، أصبح لزامًا على كل أخٍ مسلمٍ أن يؤدِّي واجبه بما يرضي الله ورسوله، وبما يحفظ للإسلام كرامته، وللدين قداسته، ولذلك الجزء الطاهر من الوطن الإسلامي حريته.

يا صاحب المقام الرفيع!!

إن الدماء التي خضبت أرض فلسطين..

إن آلاف الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل المثل الإسلامي الأعلى..

إن شباب العرب الذين أرسل بهم الإنجليز إلى المشانق مئات إثر مئات..

إن الشيوخ الذين أنزل بهم المستعمرون ألوانًا وحشيةً من التعذيب الذي أعاد إلى الأذهان صور محاكم التفتيش في أسوأ عهودها..


إن المسجد الأقصى الذي انتهكت حرمته، واعتدى الجنود الإنجليز على قداسته.. إن كرامة زعماء المسلمين وملوكهم وأمرائهم الذين تدخلوا في هذه القضية، فلم يسمع لهم مشورة، ولم يطع لهم قول، بل كرامتكم أنتم شخصيًّا، وقد كنتم محل أمل كبير في ذلك..


إن كل أولئك ليهيب بكل مسلم أن ابذل في سبيل ما وهبك الحق- تبارك وتعالى- من روح ومال؛ لتكون جديرًا بالاسم الذي تحمل، وباللواء الذي ترفع، وبالزعيم الذي أنت به مؤمن، ويجعل من الواجب على الحكومة المصرية- وقد لحقت بها تلك الإهانة البالغة- أن تحافظ على كرامتها، وكرامتها من كرامة الشعب، وليس يكفي أن تعلن أنها لا توصي أبناء فلسطين بقبول الكتاب الأبيض، فهناك وسائل كثيرة أقلها استقالة الحكومة حتى لا تتعاون مع الإنجليز، في الوقت الذي تلعب فيه السياسة الإنجليزية ببقعة غالية من الوطن الإسلامي العزيز، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".


وحول تصريح رئيس الوزراء محمد محمود الذي نشرته جريدة (الأهرام) في 20 يونيو سنة 1938م، حين سأله مندوب الـ(ديلي ميل): هل تنوي دراسة الحالة في فلسطين؟ فأجابه رفعته قائلاً: "إنني رئيس وزراء مصر، لا رئيس وزراء فلسطين، كتب صالح عشماوي مقالاً افتتاحيًّا بعنوان: "يا مصر حطمي أصنامك وطهري ديارك للصالحين"، قال فيه: "يفترض محرر الـ(ديلي ميل) في رفعة محمد باشا محمود رئيس حكومة مصر زعيمة العالم الإسلامي أنه لا بد أن يتناول في محادثاته مع الوزراء الإنجليز مسألة فلسطين، فيسأله عن نيته في ذلك؛ فيكون جوابه: إنني رئيس وزراء مصر، لا رئيس وزراء فلسطين.


أتدري- يا باشا- كم أثار تصريحك هذا؟ وكيف انقض كالصاعقة على كل مصري، وقد حمله إليه الأثير وأذاعه الراديو؟! إن هذا التصريح قنبلة أشد هولاً وإجرامًا من قنبلة القدس، ولئن كانت الأخيرة ألقتها فتاة يهودية، فمن نكد الدنيا أن يلقي القنبلة الأخرى رجل مسلم.


إن فلسطين- يا باشا- لا تحتاج رؤساء دبلوماسيين، ففيها من أبطالها المجاهدين رجال ليس من العدل ولا من الإنصاف أن نجعلهم موضع مقارنة مع أي زعيم ووزير مصري، ولو كان رئيس وزراء مصر، إن في فلسطين رجالاً مجاهدين وأبطالاً غرًّا ميامين، وقفوا أمام الحديد والنار، وقاوموا اليهود والاستعمار لم يتعودوا الانحناء لمندوب سام أو سفير، إن فلسطين مهوى أفئدة المسلمين جميعًا، فلن يضيرها أن يتنكر لها فرد، وإن كان رئيس وزارة، أو يتجاهلها مخلوق أيًّا كانت منزلته.


فهنيئًا لك- يا باشا- فقد كسبتم صداقة الإنجليز، وخسرتم ثقة مصر وفلسطين، بل عطف العالم العربي والإسلامي أجمع".


وكتب الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد حول هذه السقطة التي سقط فيها رئيس الوزراء، يقول: "يا رئيس وزراء مصر فقط، أي شيء أقالك عن رئاسة وزراء فلسطين يوم غضبت لقضيتها في العام الماضي في نفس المكان، وعلى مسمع القوم أنفسهم؟!.


لا أحسب شيئًا أقالك ونحَّاك عن فلسطين إلا الحكم الذي كنت منحيًا عنه يومئذٍ، فلو أنصفت لقلت: إنك رئيس منصب الحكومة لا رئيس الحكومة، ولا رئيس آمال الأمة الكريمة


يا رئيس وزراء مصر لا فلسطين، أتدري أي سهم أرسلت؟ وأي قلب أصبت؟ وأي شرف طعنت؟ وأي ذنب اقترفت بهذه الكلمة الخطيرة الصغيرة".


وفي 16 من شوال 1355هـ الموافق 31 من ديسمبر 1936م تحوَّلت جمعية مصر الفتاة إلى حزب سياسي، فكان حزبًا يتمتع بشعبية وسط الشباب المصري، ويتبنى خطًّا وطنيًّا قويًّا ذا تأثير سلبي على شعبية الوفد بين الشباب؛ لذا اتجه الوفد إلى محاربة مصر الفتاة، كما أن تولي "مصطفى النحاس" رئاسة الوزراء في مصر عام 1936م كان مؤشرًا على اضطهاد أعضاء مصر الفتاة وتشكيلات القمصان الخضراء، فأنشأ الوفد تشكيلات شبه عسكرية عرفت بـ"القمصان الزرقاء"، واصطدم هؤلاء بتشكيلات مصر الفتاة، ونتج عن ذلك قتل شخصين، ومن ثم تعرضت مقرات مصر الفتاة للإغلاق، وتوازى مع ذلك حملة سياسية شنَّها النحاس باشا في مجلس النواب بأن مصر الفتاة تعمل مع دولة أجنبية، خاصةً بعد حادث تعرض النحاس باشا لإطلاق نار، فتم إغلاق دور مصر الفتاة، واعتقال الكثير من أعضائها، وعلى رأسهم أحمد حسين.


وعندما تولَّى "محمد محمود باشا" رئاسة الوزراء في مصر في أواخر 1937م، تم استصدار مرسوم يمنع عمل وإنشاء التشكيلات شبه العسكرية في مصر.


ومن الجدير بالذكر أن الإمام البنا رفض ضغوط الإخوان عليه لتحويل فرق الجوالة إلى فرق ذات طابع عسكري كفرق القمصان الزرق التابعة للوفد، وفرق القمصان الخضر التابعة لمصر الفتاة، وأصرَّ أن تظل فرق الجوالة تابعة للجمعية الكشفية، وكان ذلك ينم عن بعد نظر الإمام الشهيد، فقد أثارت الفرق العسكرية ذات الألوان الكثير من المشكلات؛ فقامت وزارة محمد محمود باشا في يناير 1938م بحلِّ تلك الفرق، وسَلِمَتْ جوالة الإخوان بسبب حصافة الإمام الشهيد.


لقد وقف الإمام البنا والإخوان من القضايا الاجتماعية وقفهً شديدةً، محاولين إصلاحها، وكتبوا في ذلك الكثير من الرسائل لرئيس الوزراء ووزرائه، ومما كتب ما جاء في مجلة (النذير) على لسان رئيس تحريرها الأستاذ صالح عشماوي، تعيب على رئيس الوزراء قبوله بالسماح للزنا والدعارة التي تمارس سرًّا وجهرًا، قائلة: "إننا نعلم- يا رفعة الرئيس- أنك نشأت في أرض صعيد مصر المحافظ على عاداته وتقاليده، وأنه يجري في عروقك الدم الشرقي الحار، وما نظن أن بضع سنوات قضيتها في أكسفورد قد غيَّرت طبيعتك، وحالت بينك وبين المحافظة الشديدة على العادات والتقاليد، أما أنت يا سيدي هيكل- محمد حسين هيكل وزير المعارف- يا صاحب كتاب "حياة محمد"، و"في منزل الوحي" كيف ترضى أن يصرح بكل هذا الفجور لوزارة أنت فيها مسئول؟ أما اللوم الكبير فهو لوزير جليل صاحب المعالي مصطفى بك عبد الرازق وزير الأوقاف، وهو مسئول بحكم التضامن عن سياسة الوزارة العامة، كيف ترضى- معاليكم- وأنت من خريجي الأزهر الشريف وعلماء الإسلام أن تسكت على هذا، وقد توليت أمر المسلمين، وأصبحت من ولاة الأمر والنهي؟!".


كما أرسل الإخوان خطابًا مفتوحًا إلى صاحب المعالي عبد السلام الشاذلي باشا وزير الشئون الاجتماعية، جاء فيه: "سنوا القوانين الصارمة والعقوبات المؤلمة لكل مستهتر ومستهترة، وكل معتدٍ على كل فتاة، وكل امرأة معتدية على فتاة أيضًا.


فإن لم تتداركوا الحال بما عرف عنكم من الغيرة والجرأة والشهامة، عسر في المستقبل إيجاد جيل يعتصم بالفضيلة ويستمسك بالأخلاق الفاضلة، وكان من الصعب مداواة هذا المرض الوبيء الذي يربو كل يوم ويزداد كل آونة، لتمش- يا صاحب المعالي- متخفيًا مرة، أو لترسل من يذهب متخفيًا إلى هذه الأماكن؛ لترى ما ترى أو ليرى ما يرى".


ورفض الإخوان بشدة عزم حكومة محمد محمود باشا إقامة مدينة للملاهي عمادها الخمر والميسر، ورأوا أن خطورة هذه المدينة مع أن الرقص والبغاء موجود في أماكن معلومة في أن الأسر الكريمة لا ترتاد تلك الأماكن الموبوءة، أما في مدينة الملاهي فهي مصيف الموجودين في القاهرة، ولا يمنع الرجل من أن يصطحب زوجته أو كريمته، وبذلك تذبح الفضيلة، ويشيع الفساد والفحشاء؛ حيث هناك ستقع أنظار السيدات والآنسات على مناظر لم يألفوها من قبل!!، فأي إغراء للمرأة الشريفة.


وعندما أقرت اللجنة المختصة رأي وزير الداخلية في ضرورة إجراء الكشف الطبي على كل من يعمل في الكباريهات، استنكر الإخوان الأمر، قائلين: "لا ندري ما الذي يفرض علينا وجود هذه الصالات والكباريهات، ولما لا تلغى فتقتلع الفساد من جذوره، ونوفر أموال الدولة وجهود بنيها في الكشف الطبي على الراقصات؟!، كم من مرة نقول: الوقاية خير من العلاج، والإسلام لا يعرف أنصاف الحلول".


وفي مذكرة الإخوان للحكومة عام 1938م طالبوا بالفصل التام بين الجنسين في دور التعليم، وخصوصًا في الجامعة المصرية؛ لما ينتج عن ذلك من فساد أخلاقي كبير.


ولقد اعتبر الإخوان صمت الشيخ المراغي إزاء تصرف وزارة محمد محمود بمناسبة حفل زواج الملك مأخذًا يعرض للقيل والقال، خاصةً أن له مواقف أخرى ذات لون حزبي مختلف، ولذلك تساءل الإخوان: هل أحكام الإسلام تتغير بتغير الوزارات؟


ولقد كانت وزارة محمد محمود أول وزارة تعتقل الإمام الشهيد حسن البنا لتوزيعه كتاب: "النار والدمار في فلسطين"، وكانت تنوي تقديمه للمحاكمة؛ لولا تدخل السفير البريطاني الذي رأى أن محاكمة حسن البنا على تلك القضية تكون سببًا في نشر أفكاره، كما ستزيد الكراهية للإنجليز، كما استمرت حالات القبض على الإخوان، ومنعهم من إقامة مؤتمراتهم حدث ذلك في الزقازيق، وشبين الكوم، ورغم كل ذلك أقام الإخوان حفل تكريم للنواب والشيوخ الذين دافعوا عن الفكرة الإسلامية، وحاربوا الإلحاد والإباحية في مجلس النواب والشيوخ، شارك فيها العديد من القيادات.


وقد تحدَّث البعض عن تحالف بين حكومة محمد محمود والإخوان، واستدلوا على ذلك بأن حكومة محمد محمود لم تحل كشافة الإخوان المسلمين، عندما حلت القمصان الزرقاء للوفد والقمصان الخضراء لمصر الفتاة، وقد رتبوا على ذلك أن الإخوان حالفوا أحزاب الأقلية ضد حزب الوفد، وأنهم كانوا أداة في يد تلك الأحزاب لمحاربة الوفد، كما رتب بعضهم على ذلك مهادنة الإخوان للاستعمار.


غير أن هؤلاء نسوا أن مجرد الانطباعات الشخصية التي يمكن أن تكون صحيحةً أو غير صحيحةٍ لا تحدد العلاقة بين الإخوان وأي أحد، إن الذي يحدد طبيعة العلاقة هي المواقف المتبادلة بين الإخوان وتلك الحكومات.


أما موضوع حلِّ الفرق العسكرية، وترك جوالة الإخوان، فقد صدر قرار في 8 مارس 1938م بحظر الجمعيات أو الجماعات التي يكون بها صورة التشكيلات العسكرية، ولم يستثن أحدًا، أما عدم تطبيقه على الإخوان، فذلك مرجعه أن جوالة الإخوان كانت مسجلة في جمعية الكشافة الأهلية.


أما العلاقة الحقيقية بين الإخوان ووزارة محمد محمود، وغيرها من الوزارات؛ فكان العامل الأساسي في تلك العلاقة هو قرب أو بعد هذه الوزارة من الإسلام، وطريقة تعاملها مع القضايا الوطنية الإسلامية، ولذلك فقد بدأ الإخوان بالنصيحة، فأرسل الإمام الشهيد مذكرةً إلى محمد محمود باشا رئيس الوزراء دعاه فيها إلى تحكيم الشريعة الإسلامية، وأن يضع ثقته في الشعب المصري، وأن يقدم من نفسه ووزارته القدوة الصالحة للشعب، ويقضي على الفساد والموبقات التي تحيق بالشعب، كما دعاه لتنحية الخلافات جانبًا والاتحاد مع الأحزاب الأخرى في هيئة واحدة تعمل على خير البلاد.


وهذا هو موقف الإخوان الحقيقي من تلك الحكومة وغيرها، فهو يؤيد ويعارض للمبادئ، وهذا ما لا يفهمه أصحاب الأهواء والمصالح والمتحزبون الذين يؤيدون أحزابهم والقريبون منهم، سواء في الخطأ أو الصواب، ولكن أهل الإسلام لا يعرفون الحق بالرجال، بل يعرفون الرجال بالحق.


وفي الحلقة القادمة إن شاء الله نتعرف على جهودهم مع وزارة علي ماهر باشا.


للمزيد

1- رسالة المؤتمر السادس: مجموعة رسائل الإمام البنا، دار الدعوة، 1998م.

2- جمعة أمين عبد العزيز: أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، دار التوزيع والنشر الإسلامية.

3- عبد الرحمن الرافعي: في أعقاب الثورة المصرية، دار المعارف، الطبعة الثانية، 1989م.

4- محمود عبد الحليم: الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، دار الدعوة، 1999م.