إلى أي شيء ندعو الناس؟

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
إلى أي شيء ندعو الناس؟


بقلم:الإمام الشهيدحسن البنا

2003-01-04

تمهيد

قد تتحدث إلى كثير من الناس في موضوعات مختلفة فتعتقد أنك قد أوضحت كل الإيضاح وأبنت كل الإبانة، وأنك لم تدع سبيلاً للكشف عما في نفسك إلا سلكتها، حتى تركت من تحدثهم على المحجة البيضاء وجعلت لهم ما تريد بحديثك من الحقائق كفلق الصبح أو كالشمس في رابعة النهار كما يقولون، وما أشد دهشتك بعد قيل حين ينكشف لك أن القوم لم يفهموا عنك ولم يدركوا قولك.

رأيت ذلك مرات ولمسته من عدة مواقف، وأعتقد أن السر فيه لا يعدو أحد أمرين:

إما أن الذي يقيس به كل منا وما يسمع عنه مختلف، فيختلف تبعاً لذلك الفهم والإدراك، وإما أن يكون القول في ذاته ملتبسًا غامضًا وإن اعتقد قائله أنه واضح مكشوف.

المقياس

وأنا أريد في هذه الكلمة أن أكشف للناس عن دعوة الإخوان المسلمين وغايتها ومقاصدها وأساليبها ووسائلها في صراحة ووضوح وفي بيان وجلاء، وأحب أولاً أن أحدد المقياس الذي نقيس به هذا التوضيح، وسأجتهد في أن يكون القول سهلاً ميسورًا لا يتعذر فهمه على قارئ يحب أن يستفيد، وأظن أن أحدًا من الأمة الإسلامية جميعاً لا يخالفني في أن يكون هذا المقياس هو كتاب الله نستقي من فيضه ونستمد من بحره ونرجع إلى حكمه. يا قومنا..

إن القرآن الكريم كتاب جامع جمع الله فيه أصول العقائد وأسس المصالح الاجتماعية، وكليات الشرائع الدنيوية، فيه أوامر وفيه نواه، فهل عمل المسلمون بما في القرآن فاعتقدوا وأيقنوا بما ذكر الله من المعتقدات، وفهموا ما أوضح لهم من الغايات؟ وهل طبقوا شرائعه الاجتماعية والحيوية على تصرفاتهم في شؤون حياتهم؟ إن انتهينا من بحثنا أنهم كذلك فقد وصلنا معًا إلى الغاية، وإن تكشف البحث عن بعدهم عن طريق القرآن وإهمالهم لتعاليمه وأوامره فاعلم أن مهمتنا أن نعود بأنفسنا وبمن تبعنا إلى هذا السبيل غاية الحياة في القرآن:

إن القرآن حدد غايات الحياة ومقاصد الناس فيها فبين أن قومًا غايتهم من الحياة الأكل والمتعة، فقال تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ)(محمد:12).

و بين أن قومًا مهمتهم في الحياة الزينة والعرض الزائل فقال تبارك وتعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران:14).

وبين أن قوماً آخرين شأنهم في الحياة إيقاد الفتن وإحياء الشرور, أولئك الذين قال الله فيهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَالله ُلاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة:204-205).

تلك مقاصد من مقاصد الناس في الحياة نزه الله المؤمنين عنها وبرأهم منها وكلفهم مهمة أرقى، وألقى على عاتقهم واجباً أسمى ذلك الواجب هو: هداية الناس إلى الحق، وإرشاد الناس جميعًا إلى الخير، وإنارة العالم كله بشمس الإسلام فذلك قوله تبارك وتعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج:77-78).

‏ومعنى هذا أن القرآن الكريم يقيم المسلمين أوصياء على البشرية القاصرة، ويعطيهم حق الهيمنة والسيادة على الدنيا لخدمة هذه الوصاية النبيلة وإذاً فذلك من شأننا لا من شأن الغرب ولمدنية الإسلام لا لمدنية المادة.

وصاية المسلم تضحية لا استفادة

ثم بين الله تبارك وتعالى أن المؤمن في سبيل هذه الغاية قد باع لله نفسه وماله فليس له فيها شيء وإنما هي وقف على نجاح هذه الدعوة وإيصالها إلى قلوب الناس وذلك قوله تعالى:(إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) (التوبة:111).

وومن ذلك نرى المسلم يجعل دنياه وقفًا على دعوته ليكسب آخرته جزاء تضحيته.

ومن هنا كان الفاتح المسلم أستاذاً يتصف بكل ما يجب أن يتحلى به الأستاذ من نور وهداية ورحمة ورأفة، وكان الفتح الإسلامي فتح تمدين وتحضير وإرشاد وتعليم، وأين هذا مما يقوم به الاستعمار الغربي الآن؟ أين المسلمون من هذه الغاية؟

فبربك ياعزيزي: هل فهم المسلمون من كتاب ربهم هذا المعنى فسمت نفوسهم ورقت أرواحهم، وتحرروا من رق المادة وتطهروا من لذة الشهوات والأهواء، وترفعوا عن سفاسف الأمور ودنايا المقاصد، ووجهوا وجوههم للذي فطر السموات والأرض حنفاء يعلون كلمة الله ويجاهدون في سبيله، وينشرون دينه ويذودون عن حياض شريعته، أم هؤلاء أسرى الشهوات وعبيد الأهواء والمطامع، كل همهم لقمة لينة ومركب فاره وحلة جميلة ونومة مريحة وامرأة وضيئة ومظهر كاذب ولقب أجوف؟

رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم

وخاضوا بحار الجد دعوى فما ابتلوا

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة).

الغاية أصل والأعمال فروع لها

وبما أن الغاية هي التي تدفع إلى الطريق، ولما كانت الغاية في أمتنا غامضةً مضطربةً كان لابد من أن نوضح ونحدد، وأظننا وصلنا إلى كثير من التوضيح واتفقنا على أن مهمتنا سيادة الدنيا وإرشاد الإنسانية كلها إلى نظم الإسلام الصالحة وتعاليمه التي لا يمكن بغيرها أن يسعد الإنسان.

مصادر غايتنا

تلك هي الرسالة التي يريد الإخوان المسلمون أن يبلغوها للناس وأن تفهمها الأمة الإسلامية حق الفهم، وتهب لإنفاذها في عزم وفي مضاء، لم يبتدعها الإخوان ابتداعًا، ولم يختلقوها من أنفسهم، وإنما هي الرسالة التي تتجلى في كل آية من آيات القرآن الكريم، وتبدوا في غاية الوضوح في كل حديث من أحاديث الرسول العظيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتظهر في كل عمل من أعمال الصدر الأول الذين هم المثل الأعلى لفهم الإسلام وإنفاذ تعاليم الإسلام, فإن شاء المسلمون في أن يقبلوا هذه الرسالة كان ذلك دليل الإيمان والإسلام الصحيح، وإن رأوا فيها حرجًا أو غضاضةً فبيننا وبينهم كتاب الله تبارك وتعالى، حكم عدل وقول فصل يحكم بيننا وبين إخواننا ويظهر الحق لنا أو علينا:(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين)(الأعراف:89).

استطراد

يتساءل كثير من إخواننا الذين أحببناهم من كل قلوبنا ووقفنا لخيرهم والعمل لمصلحتهم الدنيوية والأخروية جهودنا وأموالنا وأرواحنا، وفنينا في هذه الغاية، غاية إسعاد أمتنا وإخواننا، عن أموالنا وأنفسنا، وذهلنا في سبيلهم عن أبنائنا والحلائل. أتمنى أن يطلع هؤلاء الإخوان المتسائلون على شباب الإخوان المسلمين وقد سهرت عيونهم والناس نيام، وشغلت نفوسهم والخليون هجع، وأكب أحدهم على مكتبه من العصر إلى منتصف الليل عاملاً مجتهدًا ومفكرًا مجدًا، ولا يزال كذلك طول شهره، حتى إذا ما انتهى الشهر جعل مورده موردًا لجماعته، ونفقته نفقة لدعوته، وماله خادمًا لغايته، ولسان حاله يقول: لا أسألكم عليه أجرًا إن أجري إلا على الله. ومعاذ الله أن نمن على أمتنا فنحن منها ولها وإنما نتوسل إليها بهذه التضحية أن تفقه دعوتنا وتستجيب لندائنا.

من أين المال

يتساءل هؤلاء الإخوان المحبوبون الذين يرمقون الإخوان المسلمين عن بعد ويرقبونهم عن كثب قائلين: من أين ينفقون؟ وأنى لهم المال اللازم لدعوة نجحت وازدهرت كدعوتهم والوقت عصيب والنفوس شحيحة؟

وإني أجيب هؤلاء بأن الدعوات الدينية عمادها الإيمان قبل المال، والعقيدة قبل الأعراض الزائلة، وإذا وجد المؤمن الصحيح وجدت معه وسائل النجاح جميعًا، وإن في مال الإخوان المسلمين القليل الذي يقتطعونه من نفقاتهم ويقتصدونه من ضرورياتهم ومطالب بيوتهم وأولادهم، ويجودون به طيبة نفوسهم سخية به قلوبهم، يود أحدهم لو كان له أضعاف أضعاف فينفقه في سبيل الله، فإذا لم يجد بعضهم شيئًا تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون. في هذا المال القليل والإيمان الكبير ولله الحمد والعزة بلاغ لقوم عابدين ونجاح للعاملين الصادقين، وإن الله الذي بيده كل شيء ليبارك في القرش الواحد من قروش الإخوان, )يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ( (البقرة:276).

)وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ( (الروم:39)

نحن والسياسة

ويقول قوم آخرون إن الإخوان المسلمين قوم سياسيون ودعوتهم سياسية ولهم من وراء ذلك مآرب أخرى. ولا ندري إلى متى تتقارض أمتنا التهم وتتبادل الظنون وتتنابز بالألقاب، وتترك يقينًا يؤيده الواقع في سبيل ظن توحيه الشكوك.

يا قومنا: إننا نناديكم والقرآن في يميننا والسنة في شمالنا، وعمل السلف الصالحين من أبناء هذه الأمة قدوتنا، وندعوكم إلى الإسلام وتعاليم الإسلام وأحكام الإسلام، فإن كان هذا من السياسة عندكم فهذه سياستنا، وإن كان من يدعوكم إلى هذه المبادئ سياسيًا فنحن أعرق الناس والحمد لله في السياسة، وإن شئتم أن تسموا ذلك سياسة فقولوا ما شئتم فلن تضرنا الأسماء متى وضحت المسميات وانكشفت الغايات.

يا قومنا: لا تحجبكم الألفاظ عن الحقائق ولا الأسماء عن الغايات، ولا الأعراض عن الجوهر، وإن للإسلام لسياسة في طيها سعادة الدنيا وصلاح الآخرة، وتلك هي سياستنا لا نبغي بها بديلا فسوسوا بها أنفسكم، واحملوا عليها غيركم تظفروا بالعزة الأخروية، ولتعلمن نبأه بعد حين.

قوميتنا وعلى أي أساس ترتكز

أيها الأخ: تعال نصغ معًا إلى صوت العزة الإلهية يدوي في أجواء الآفاق، ويملأ الأرض والسبع الطباق، ويوحي في نفس كل مؤمن أسمى معاني العزة والفخار، حين يسمع هذا النداء الذي تستمع له السموات والأرض ومن فيهن منذ أن بلغه الأمين إلى هذا الوجود، إلى حيث لا نهاية إذا كتب له الخلود: )اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا( (البقرة:257).

أجل أجل يا أخي: هذا نداء ربك إليك، فلبيك اللهم لبيك، وحمدًا وشكرًا لك لانحصي ثناءً عليك، أنت ولي المؤمنين ونصير العاملين والمدافع عن المظلومين الذين حوربوا في بيوتهم وأخرجوا من ديارهم، عز من لجأ إليك وانتصر من احتمى بحماك.

(وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج).

أجل أجل يا أخي: تعال نستمع معاً إلى صوت القرآن الكريم، ونطرب بتلاوة الآيات البينات، ونسجل جمال هذه العزة في صحائف ذلك الكتاب المطهر.

إليّ إليّ يا أخي واسمع قول الله تبارك وتعالى:

1 –(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) (البقرة:257).

2 –(بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) (آل عمران:150).

3 – (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (المائدة:55).

4 – (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) (لأعراف:196).

5 –(قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة:51).

6 –(أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (يونس: 62-63).

7 –(ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ) (محمد:11).

ألست ترى في هذه الآيات البينات أن الله تبارك وتعالى ينسبك إلى نفسه ويمنحك فضل ولايته ويفيض عليك من فيض عزته؟

وفي الحديث الشريف الذي يرويه المختار صلى الله عليه وسلم عن ربه فيما معناه: (يقول الله تبارك وتعالى يوم القيامة: يا بني آدم جعلت نسبًا وجعلتم نسبًا فقلتم فلان ابن فلان وقلت: إن أكرمكم عند الله أتقاكم فاليوم أرفع نسبى وأوضع نسبكم).

لهذا أيها الأخ الكريم فضل السلف الصالح أن يرفعوا نسبتهم إلى الله ـ تبارك وتعالى، ويجعلوا أساس صلاتهم ومحور أعمالهم تحقيق هذه النسبة الشريفة فينادي أحدهم صاحبه قائلا:

لا تدعني إلا بيا عبدها

فإنه أشرف أسمائي

في حين يجيب الآخر من سأله عن أبيه أتميمي هو أم قيسي:

أبي الإسلام لا أب لي سواه

إذا افتخروا بقيس أو تميم

ليس بعد ذلك عزة

أيها الأخ العزيز: إن الناس إنما يفخرون بأنسابهم لما يأنسون من المجد والشرف في أعمال جدودهم، ولما يقصدون من نفخ روح العزة والكرامة في نفوس أبنائهم وراء هذين المقصدين شئ، أفلا ترى نسبتك إلى الله تبارك وتعالى أسمى ما يطمح إليه الطامحون من معاني العزة والمجد: (فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا) (النساء:139)، وأولى ما يرفع نفسك إلى عليين وينفخ فيها روح النهوض مع العاملين، وأي شرف أكبر وأي رافع إلى فضيلة أعظم من أن ترى نفسك ربانيًا، بالله صلتك وإليه نسبتك، ولأمر ما قال الله تبارك وتعالى: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران:79).

أعظم مصادر القوة

وفي النسبة إلى الحق تبارك وتعالى معنىً آخر يدركه من التحق بهذه النسبة, ذلك هو الفيض الأعم من الإيمان، والثقة بالنجاح الذي يغمر قلبك فلا تخشى الناس جميعًا ولا ترهب العالم كله إن وقف أمامك يحاول أن ينال عقيدتك أو ينتقص من مبدئك: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران:173).

ولأمر ما كان الواحد من أولئك القلائل المؤمنين بالله وثقته وتأييده يقف أمام الجحفل اللجب والجيش اللهام، فلا يرهب صولته ولا يخشى أذاه لأنه لا يخشى أحداً إلا الله، وأي شيء أعظم من تلك القوة التي تنسكب من قلب الرجل المؤمن حين يجيش صدره بقول الله: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ) (آل عمران:160).

قوميتنا نسبة عامية

وهناك معنىً آخر من معاني السمو الاجتماعي في انتساب الناس إلى الله تبارك وتعالى، ذلك هو تآخي الشعوب وتآزر الجماعات والقضاء على تلك المطامع التي توحي بها العصبية ويؤرِّث نيرانها بين الأمم التقاطع والتخاصم، فمن للعالم بأن يجتمع بقوة حول راية الله..؟

أحلام الأمس حقائق اليوم

هذا كلام طال عهد المسلمين باستماعه فقد يكون غامضًا عليهم غير مفهوم لديهم، وقد يقول قائل: ما لهؤلاء الجماعة يكتبون في هذه المعاني التي لا يمكن أن تتحقق، وما بالهم يسبحون في جو الخيال والأحلام؟

على رسلكم أيها الإخوان في الإسلام والملة فإن ما ترونه اليوم غامضًا بعيداً كان عند أسلافكم بدهيًا قريبًا، ولن يثمر جهادكم حتى يكون كذلك عندكم، وصدقوني إن المسلمين الأولين فهموا من القرآن لأول ما قرأوه ونزل فيهم، ما ندلي به اليوم ونقصه عليكم.

وأصارحكم بأن عقيدة الإخوان المسلمين يحيون بها يأملون الخير فيها ويموتون عليها، ويرون فيها كل ما تصبوا إليه نفوسهم من متعة وجمال وإسعاد وحق: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16).

أيها الإخوان: إذا اتفقتم معنا على هذا الأساس فاعلموا أن انتسابكم إلى الله تبارك وتعالى يفرض عليكم أن تقدروا المهمة التي ألقاها على عاتقكم، وتنشطوا للعمل لها والتضحية في سبيلها فهل أنتم فاعلون؟ مهمة المسلم:

إن مهمة المسلم الحق لخصها الله تبارك وتعالى في آية واحدة من كتابه، ورددها القرآن الكريم بعد ذلك في عدة آيات، فأما تلك الآية التي اشتملت على مهمة المسلمين في الحياة فهي قول الله تبارك وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)(الحج:77-78).

هذا كلام لا لبس فيه ولا غموض، ووالله إن له لحلاوةً وإن عليه لطلاوةً، وإنه لواضح كالصبح ظاهر كالنور، يملأ الآذان ويدخل على القلوب بغير استئذان، أفلم يسمعه المسلمون قبل الآن؟ أم سمعوه ولكن على قلوبهم أقفالاً فلا تعي ولا تتدبر؟

يأمر الله المسلمين أن يركعوا ويسجدوا وأن يقيموا الصلاة التي هي لب العبادة وعمود الإسلام وأظهر مظاهره، وأن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، وأن يفعلوا الخير ما استطاعوا، وهو حين يأمرهم بفعل الخير ينهاهم بذلك عن الشر وإن من أول الخير أن تترك الشر، فما أوجز وما أبلغ ! ورتب لهم على ذلك النجاح والفلاح والفوز وتلك هي المهمة الفردية لكل مسلم التي يجب عليه أن يقوم بها بنفسه في خلوة أو جماعة. حق الإنسانية:

ثم أمرهم بعد ذلك أن يجاهدوا في الله حق جهاده بنشر هذه الدعوة وتعميمها بين الناس بالحجة والبرهان، فإن أبوا إلا العسف والجور والتمرد فبالسيف والسنان:

والناس إن ظلموا البرهان واعتسفوا

فالحرب أجدى على الدنيا من السلم

حراسة الحق بالقوة

وما أحكم ذلك القائل: "القوة أضمن طريق لإحقاق الحق، وما أجمل أن تسير القوة والحق جنبًا إلى جنب"، فهذا الجهاد في سبيل نشر الدعوة الإسلامية فضلا عن الاحتفاظ بمقدسات الإسلام فريضة الله على المسلمين كما فرض عليهم الصوم والصلاة والحج والزكاة وفعل الخير وترك الشر، وألزمهم إياها وندبهم إليها، ولم يعذر في ذلك أحد فيه قوة واستطاعة، وإنها لآية زاجرة رادعة وموعظة بالغة زاجرة:(انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) (التوبة:41).

وقد كشف الله سر هذا التكليف وحكمة هذه الفريضة التي افترضها على المسلمين بعد هذا الأمر، فبين لهم أنه اجتباهم واختارهم واصطفاهم دون الناس ليكونوا سوَّاس خلقه وأمناءه على شريعته وخلفاءه في أرضه، وورثة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دعوته، ومهد لهم الدين وأحكم التشريع وسهل الأحكام وجعلها من الصلاحية لكل زمان ومكان بحيث يتقبلها العالم، وترى فيها الإنسانية أمنيتها المرجوة وأملها المنتظر: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) (الحج:78).

وتلك هي المهمة الاجتماعية التي ندب الله إليها المسلمين جميعًا، وأن يكونوا صفًا واحدًا وكتلةً وقوةً، وأن يكونوا هم جيش الخلاص الذي ينقذ الإنسانية ويهديها سواء السبيل.

رهبان بالليل وفرسان بالنهار

ثم أوضح الحق تبارك وتعالى للناس بعد ذلك الرابطة بين التكاليف من صلاة وصوم بالتكاليف الاجتماعية وأن الأولى وسيلة للثانية، وأن العقيدة الصحيحة أساسهما معًا، حتى لا يكون لأناس مندوحة من القعود عن فرائضهم الفردية بحجة أنهم يعملون للمجموع، وحتى لا يكون لآخرين مندوحة من القعود عن العمل للمجموع بحجة أنهم مشغولين بعباداتهم مستغرقون في صلتهم لربهم، فما أدق وأحكم، ومن أحسن من الله حديثا؟

أيها المسلمون: عبادة ربكم والجهاد في سبيل التمكين لدينكم وإعزاز شريعتكم هي مهمتكم في الحياة، فإن أديتموها حق الأداء فأنتم الفائزون، وإن أديتم بعضها أو أهملتموها جميعًا فإليكم أسوق قول الله تبارك وتعالى: (َفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ، فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) (المؤمنون:115-116).

لهذا المعنى جاء أوصاف أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم صفوة الله من خلقه والسلف الصالح من عباده: "رهبان بالليل فرسان بالنهار" ترى أحدهم في ليله ماثلا في محرابه قابضًا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ويقول: "يا دنيا غري غيري" فإذا انفلق الصباح ودوى النفير يدعو المجاهدين، رأيته رئبالا على صهوة جواده، يزأر الزأرة فتدوي لها جنبات الميدان.

بالله عليك ما هذا التناسق العجيب والتزاوج بين الغريب والمزيج الفريد بين عمل الدنيا ومهامها وشؤون الآخرة وروحانيتها؟ ولكنه الإسلام الذي جمع من كل شيء أحسنه.

استعمار الأستاذية والإصلاح

ولهذا المعنى أيها المسلمون نفر المسلمون، بعد أن اختار نبيه - صلى الله عليه وسلم - الرفيق الأعلى في أقطار الأرض، قرآنه في صدورهم ومساكنهم على سروجهم وسيوفهم بأيديهم، حجتهم واضحة على ألسنتهم يدعون الناس إلى إحدى ثلاث: الإسلام أو الجزية أو القتال، فمن أسلم فهو أخوهم له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن أدى الجزية فهو في ذمتهم وعهدهم يقومون بحقه ويرعون عهده ويوفون له بشرطه، ومن أبى جالدوه حتى يظهرهم الله عليه،(وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) (التوبة:32).

ما فعلوا ذلك لسلطان، فزهادتهم في الجاه والشهرة معروفة عند الخاص والعام, ولقد قضى دينهم على تلك المظاهر الزائفة التي يستمتع بها أقوام على حساب آخرين، فكان خليفتهم كأحدهم، يفرض له من المال والعطاء ما لرجل منهم ليس بأفضلهم ولا أدركهم، ولا يميزه إلا بما أفاض الله عليه من جلال الإيمان وهيبة اليقين، ولم يكن ذلك لمال، فحسب أحدهم كسرةً يرد بها جوعته وجرعةً يطفئ بها ظمأته، والصوم لديهم قربة، والجوع أحب عندهم من الشبع، وحظ أحدهم من الملبس ما يستر به عورته، وكتابهم يناديهم بقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) (محمد:12).

ونبيهم يقول لهم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة).

إذا لم يكن مخرجهم من ديارهم لجاه أو مال أو سلطة أو استعمار أو استبداد، وإنما كان لأداء رسالة خاصة هي رسالة نبيهم التي تركها أمانة بين أيديهم، وأمرهم أن يجاهدوا في سبيلها، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.

آن لنا أن نفهم

كان المسلمون يفهمون هذا قديماً ويعملون له ويحملهم إيمانهم على التضحية في سبيله، أما في هذه الأيام فقد تفرق المسلمون في فهم مهمتهم واتخذوا من التأويل والتعطيل سندًا للقعود والكسل، فمن قائل يقول لك: مضى وقت الجهاد والعمل، وآخر يثبط همتك يقول لك بأن الوسائل معدومة والأمم الإسلامية مقيدة، وثالث رضي من دينه كلمات يلوكها لسانه صباح مساء، وقنع من عبادته بركعات يؤديها وقلبه هواء لا لا أيها الإخوان، القرآن يناديكم بوضوح وجلاء: (نَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)إِ (الحجرات:15).

وأما في السنة فيقول لكم الرسول: (إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة وتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله، أدخل الله تعالى عليهم ذلاً لا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم) رواه الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن عمر.

وأنتم تقرأون في كتب الفقه ما أُلف منها قديمًا أو حديثًا متى يكون الجهاد فرض كفاية ومتى يكون فرض عين، وتعلمون حقائق ذلك ومعناه حق العلم، فما هذا الخمول الذي ضرب بجدرانه؟ وما هذا اليأس الذي قبض على القلوب فلا تعي ولا تفيق؟ هذا أيها المسلمون عصر التكوين فكونوا أنفسكم وبذلك تتكون أمتكم.

إن هذه الفريضة تحتاج منكم نفوساً مؤمنةً وقلوبًا سليمةً، فاعملوا على تقوية إيمانكم وسلامة صدوركم، وتحتاج منكم تضحية بالمال والجهود فاستعدوا لذلك فإن ما عندكم ينفد وما عند الله باق، وإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم جنة عرضها السموات والأرض.

من أين نبدأ

إن تكوين الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال، ومناصرة المبادئ: تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو من الفئة التي تدعو إليه على الأقل، إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور: إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه، والخديعة بغيره. على هذه الأركان الأولية التي هي من خصوص النفوس وحدها، وعلى هذه القوة الروحية الهائلة، تبنى المبادئ وتتربى الأمم الناهضة، وتتكون الشعوب الفتية، وتتجدد الحياة فيمن حرموا الحياة زمناً طويلاً.

وكل شعب فقد هذه الصفات الأربع، أو على الأقل فقدها قواده ودعاة الإصلاح فيه، فهو شعب عابث مسكين، لا يصل إلى خير، ولا يحقق أملاً، وحسبه أن يعيش في جو من الأحلام والظنون والأوهام: (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (يونس:36).

هذا هو قانون الله تبارك وتعالى وسنته في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً:(إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11).

وهو أيضا القانون الذي عبر عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث الشريف الذي رواه أبو داود:

(يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل: ومن قِلّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعنَّ اللّه من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ اللّه في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول اللّه وما الوهن؟ قال: حبُّ الدنيا وكراهية الموت).

أوَلست تراه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد بين أن سبب ضعف الأمم وذلة الشعوب وهْنُ نفوسها وضعف قلوبها وخلاء أفئدتها من الأخلاق الفاضلة وصفات الرجولة الصحيحة، وإن كثر عددها وزادت خيراتها وثمراتها.

وإن الأمة إذا رتعت في النعيم وأنست بالترف وغرقت في أعراض المادة وافتتنت بزهرة الحياة الدنيا، ونسيت احتمال الشدائد ومقارعة الخطوب والمجاهدة في سبيل الحق، فقل على عزتها وآمالها العفاء

بين القوتين

يظن كثير من الناس أن الشرق تعوزه القوة المادية من المال والعتاد وآلات الحرب والكفاح لينهض ويسابق الأمم التي سلبت حقه وهضمت أهله، ذلك صحيح ومهم، ولكن أهم منه وألزم: القوة الروحية من الخلق الفاضل والنفس النبيلة والإيمان ومعرفتها والإرادة الماضية، والتضحية في سبيل الواجب والوفاء الذي تنبني عليه الثقة والوحدة، وعنهما تكون القوة.

لو آمن الشرق بحقه وغير من نفسه واعتنى بقوة الروح وعني بتقويم الأخلاق, لأتته وسائل القوة المادية من كل جانب وعند صحائف التاريخ الخبر اليقين.

يعتقد الإخوان المسلمون هذا تمام الاعتقاد، وهم لهذا دائبون في تطهير أرواحهم وتقوية نفوسهم وتقوية أخلاقهم، وهم لهذا يجاهدون بدعوتهم ويريدون الناس على مبادئهم ويطالبون الأمة بإصلاح النفوس وتقويم الأخلاق.

وهم لم يبتدعوا ذلك ابتداعًا شأنهم في كل ما يقولون ولكنهم يستمدونه من القاموس الأعظم والبحر الخضم والدستور المحكم والمرجع الأعلى، ذلك هو كتاب الله تبارك وتعالى، وقد سمعت من قبل تلك المادة الخالدة من ذلكم القانون: (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11).

ولقد كشف القرآن عن هذا المعنى في كثير من آياته، بل إنه ضرب مثلا تطبيقيًا خالدًا واضحًا كل الوضوح صادقًا كل الصدق في قصة بني إسرائيل، تلك القصة الرائعة التي ترسم لكل أمة يائسة طريق التكوين.

المنهاج واضح

يعتقد الإخوان المسلمون أن الله تبارك وتعالى حين أنزل القرآن وأمر عباده أن يتبعوا محمّدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورضي لهم الإسلام دينًا، ووضع في هذا الدين القويم كل الأصول اللازمة لحياة الأمم ونهضتها وإسعادها، وذلك مصداق قول الله تبارك وتعالى:(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف:157).

ومصداق قول الرسول في الحديث الشريف ما معناه (والله ما تركت من شر إلا ونهيتكم عنه).

وأنت إذا أمعنت النظر في تعاليم الإسلام وجدته قد وضع أصح القواعد وأنسب النظم وأدق القوانين لحياة الفرد رجلاً وامرأة، وحياة الأسرة في تكوينها وانحلالها، وحياة الأمم في نشوئها وقوتها وانحلالها، وحلل الفكر التي وقف أمامها المصلحون.

فالعالمية والقومية والاشتراكية والرأسمالية والبلشفية والحرب وتوزيع الثروة، والصلة بين المنتج والمستهلك وما يمت بصلة قريبة أو بعيدة إلى هذه البحوث التي تشغل بال ساسة الأمم وفلاسفة الاجتماع، كل هذه نعتقد أن الإسلام خاض في لبها، ووضع للعالم النظم التي تكفل له الانتفاع بما فيها من محاسن، وتجنب ما تستتبعه من خطر وويلات، وليس ذلك مقام تفصيل في هذا المقال، فإنما نقول ما نعتقد ونبين للناس ما ندعوهم إليه، ولنا بعد ذلك جولات نفصل فيها ما نقول.

لا بد من أن نتبع

وإذا كان الإخوان المسلمون يعتقدون ذلك فهم يطالبون الناس بأن يعملوا على أن تكون قواعد الإسلام الأصول التي تبنى عليها نهضة الشرق الحديث في كل شأن من شؤون الحياة، ويعتقدون أن كل مظهر من مظاهر النهضة يتنافى مع قواعد الإسلام ويصطدم بأحكام القرآن فهو تجربة فاسدة فاشلة، ستخرج منها الأمم بتضحيات كبيرة في غير فائدة، فخير للأمم التي تريد النهوض أن تسلك إليه أخصر الطريق باتباعها أحكام الإسلام.

والإخوان المسلمون لا يختصون بهذه الدعوة قطرًا دون قطر من الأقطار الإسلامية، ولكنهم يرسلونها صيحة يرجون أن تصل إلى آذان القادة والزعماء في كل قطر يدين أبناؤه بدين الإسلام، وإنهم لينتهزون لذلك هذه الفرصة التي تتحد فيها الأقطار الإسلامية وتحاول بناء مستقبلها على دعائم ثابتة من أصول الرقي والتقدم والعمران.

احذروا الانحراف

وإن أكبر ما يخشاه الإخوان المسلمون أن تندفع الشعوب الشرقية الإسلامية في تيار التقليد، فترقع نهضاتها بتلك النظم البالية التي انتقضت على نفسها وأثبتت التجربة فسادها وعدم صلاحيتها، إن لكل أمة من أمم الإسلام دستورًا عامًا فيجب أن تستمد مواد دستورها العام من أحكام القرآن الكريم، وإن الأمم التي تقول في أول مادة من مواد دستورها: إن دينها الرسمي الإسلام، يجب أن تضع بقية المواد على أساس هذه القاعدة، وكل مادة لا يسيغها الإسلام ولا تجيزها أحكامه يجب أن تحذف حتى لا يظهر التناقض في القانون الأساسي للدولة.

أصلحوا القانون

وإن لكل أمة قانونًا يتحاكم إليه أبناؤها، وهذا القانون يجب أن يكون مستمدًا من أحكام الشريعة الإسلامية مأخوذًا عن القرآن الكريم متفقًا مع أصول الفقه الإسلامي، وإن الشريعة الإسلامية وفيما وضعه المشترعون المسلمون ما يسد الثغرة ويفي بالحاجة وينقع الغلة، ويؤدي إلى أفضل النتائج وأبرك الثمرات، وإن في حدود الله لو نفذت لزاجرًا يردع المجرم وإن اعتاد الإجرام، ويكف العادي وإن تأصل في نفسه العدوان ويريح الحكومات من عناء التجارب الفاشلة، والتجربة تثبت ذلك وتؤيده، وأصول التشريع الحديث تنادي به وتدعمه، والله تبارك وتعالى يفرضه ويوجبه: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة:44).

أصلحوا مظهر الاجتماع

وإن في كل أمة مظاهر من الحياة الاجتماعية تشرف عليها الحكومات وينظمها القانون وتحميها السلطات، فعلى كل أمة شرقية إسلامية أن تعمل على أن تكون كل هذه المظاهر مما يتفق وآداب الدين ويساير تشريع الإسلام وأوامره، إن البغاء الرسمي لطخة عار في جبين كل أمة تقدر هذه الفضيلة، فما بالك بالأمم الإسلامية التي يفرض عليها دينها محاربة البغاء والضرب على يد الزناة بشدة:

(وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور:2).

إن حانات الخمر في أظهر شوارع المدن وأبرز أحيائها، وتلك اللوحات الطويلة العريضة عن المشروبات الكحولية، وهذه الإعلانات الظاهرة الواضحة عن أم الخبائث مظاهر يأباها الدين، ويجرمها القرآن الكريم أشد التحريم.

حاربوا الإباحية

وإن هذه الإباحية المغرية والمتعة الفاتنة واللهو العابث في الشوارع والمجامع والمصايف والمرابع يناقض ما أوصى به الإسلام باتباعه من عفة وشهامة وإباء وانصراف إلى الجد وابتعاد عن الإسفاف (إن الله تعالى يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها).

فكل هذه المظاهر وأشباهها، على الأمم الإسلامية أن تبذل في محاربتها ومناهضتها كل ما في وسع سلطانها وقوانينها من طاقة ومجهود لا تني عن ذلك ولا تتواكل.

نظموا التعليم

وإن لكل أمة وشعب إسلامي سياسة في التعليم وتخريج الناشئة وبناء رجال المستقبل، الذين تتوقف عليهم حياة الأمة الجديدة، فيجب أن تبنى هذه السياسة على أصول حكيمة تضمن للناشئين مناعةً دينيةً وحصانةً خلقيةً، ومعرفةً بأحكام دينهم، واعتدادًا بمجده الغابر وحضارته الواسعة.

هذا قليل من كثير من الأصول التي يريد الإخوان المسلمون أن ترعاها الأمم الإسلامية في بناء النهضة الحديثة، وهم يوجهون دعوتهم هذه إلى كل المسلمين شعوبًا وحكومات، ووسيلتهم في الوصول إلى تحقيق هذه الغايات الإسلامية السامية وسيلة واحدة: أن يبنوا ما فيها من مزية وأحكام، حتى إذا ذكر الناس ذلك واقتنعوا بفائدته أنتج ذلك عملهم له ونزولهم على حكمه:(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108). انتفعوا بإخاء إخوانكم:

ينادي الإسلام أبناءه ومتبعيه فيقول لهم: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (آل عمران:103).

ويقول القرآن الكريم في آية أخرى:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(الحجرات:10) وفي آية أخرى:(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة:71).

ويقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (و كونوا عباد الله إخوانا) وكذلك فهم المسلمون الأولون - رضوان الله عليهم - من الإسلام هذا المعنى الأخوي وأملت عليهم عقيدتهم في دين الله أخلد عواطف الحب والتآلف، وأنبل مظاهر الأخوة والتعارف، فكانوا رجلاًَ واحدًا وقلبًا واحدًا ويدًا واحدةً، حتى امتن الله بذلك في كتابه فقال تبارك وتعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) (لأنفال:63).

تطبيق

وإن ذلك المهاجر الذي كان يترك أهله، ويفارق أرضه في مكة ويفر بدينه، كان يجد أمامه أبناء الإسلام من فتيان يثرب ينتظرون وكلهم شوق إليه وحب له وسرور بمقدمه، وما كان لهم سابق معرفة ولا قديم صلة، وما ربطهم به وشيجة من صهر أو عمومة، وما دفعتهم إليه غاية أو منفعة، وإنما هي عقيدة الإسلام جعلتهم يحنون إليه ويتصلون به، ويعدونه جزءا من أنفسهم وشقيقًا لأرواحهم، وما هو إلا أن يصل المسجد حتى يلتف حوله الغر الميامين من الأوس والخزرج، كلهم يدعوه إلى بيته ويؤثره على نفسه ويفديه بروحه وعياله، ويتشبث بمطلبه هذا حتى يؤول الأمر إلى الاقتراع، حتى روى الإمام البخاري ما معناه: (ما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة).

وحتى خلد القرآن للأنصار ذلك الفضل أبد الدهر، فما زال يبدو غرة مشرقة في جبين السنين في قول الله تبارك وتعالى:(وَالَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر:9).

وعلى هذا درج أبناء الإسلام وخص الرعيل الأول ممن وجدت بين نفوسهم الأخوة الإيمانية، لا فرق بين مهاجرهم وأنصارهم، ولا بين مكيّهم ويمنيّهم، حتى أثنى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الأشاعرة من أهل اليمن بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما معناه: (نعم القوم الأشعريون إذا جهدوا في سفر أو حضر جمعوا ما عندهم فوضعوه في مزادتهم ثم قسموه بينهم بالسوية).

وأنت إذا قرأت القرآن الكريم، وأحاديث النبي العظيم صلى الله عليه وسلم، وطالعت سير الغر الميامين من أبناء هذا الدين، رأيت من ذلك ما يقر عينك ويملأ سمعك وقلبك.

أخوة تعلن الإنسانية

ولقد أثمرت هذه العقيدة ثمرتين لابد لنا من أن نجنيهما ونتحدث إليك عما فيهما من حلاوة ولذة وخير وفائدة.

فأما الأولى منها: فقد أنتجت هذه العقيدة أن الاستعمار الإسلامي لم يشبهه أي استعمار في التاريخ أبدًا، لا في غايته ولا في مسالكه وإدارته ولا في نتائجه وفائدته، فإن المستعمر المسلم إنما كان يفتح الأرض حين يفتحها ليعلي فيها كلمة الحق، وينير أفقها بسنة القرآن الكريم، فإذا أشرقت على نفوس أهلها شمس الهداية المحمدية فقد زالت الفوارق ومحيت المظالم، وشملها العدل والإنصاف والحب والإخاء، ولم يكن هناك فاتح غالب وخصم مغلوب، ولكن إخوان متحابون متآلفون، ومن هنا تذوب فكرة القومية، وتنجاب كما ينجاب الثلج سقطت عليه أشعة الشمس قويةً مشرقةً أمام فكرة الأخوة الإسلامية التي يبثها القرآن في نفوس من يتبعونه جميعًا.

إن ذلك الفاتح المسلم قبل أن يغزو من غزا ويغلب من غلب، قد باع أهله، وتجرد من عصبيته وقوميته في سبيل الله، فهو لا يغزو لعصبية ولا يغلب لقومية ولا ينتصر لجنسية، ولكنه حين يعمل لله ولله وحده لا شريك له، وإن أروع ما أثر من الإخلاص في الغاية، وتجريد النفس من الهوى ما جاء في الحديث الشريف ما معناه أن رجلا جاء إلى النبي فقال له يا رسول الله، إني أحب أن أجاهد في سبيل الله، وأحب أن يرى موقفي فسكت النبي ولم يجبه، فنزلت الآية الكريمة:(فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف:110).

أرأيت كيف اعتبر الإسلام تطلع هذا الشخص إلى الثناء والمدح وهما من طبائع النفوس شركا خفيًا يجب أن يتنزه عنه ويسمو بشرف الغاية النبيلة عنه؟ وهل هناك أخلص من أن ينسى الإنسان نفسه في سبيل غايته؟ وهل تظن أن رجلا يشترط عليه دينه أن يتجرد من نفسه ويكبت عواطفها وميولها وأهواءها حتى يكون جهاده خالصًا لله وحده، يفكر بعد هذا في أن يجاهد لعصبية أو يغزو لجنس أو قومية ؟.. اللهم لا.

إن ذلك المغلوب الذي شاء له القدر أن يسعد بالإسلام ويهتدي به، ما ترك بلده وأرضه لأجنبي عنه يتحكم فيها ويسخره تسخير العبد الذليل، ويستأثر دونه بخيراتها، ولكنه ترك ما ترك لأنه يخلطه بنفسه ويمزجه بروحه ويناديه بإخلاص: لك ما لنا وعليك ما علينا، وكتاب الله تبارك وتعالى يفصل بيننا، فكلاهما فني في غايته وضحّى في سبيل مبدئه، وترك ما ترك ليعم الإنسانية نور الله، وتسطع عليها شمس القرآن الكريم، وفي ذلك تمام إسعادها وكمال رقيها لو كانوا يعلمون.

أفق الوطن الإسلامي

أما الثمرة الثانية: فإن الأخوة الإسلامية جعلت كل مسلم يعتقد أن كل شبر من الأرض، فيه أخ يدين بدين القرآن الكريم، قطعةً من الأرض الإسلامية العامة التي يفرض الإسلام علي كل أبنائه أن يعملوا لحمايتها وإسعادها فكان من ذلك أن أتسع أفق الوطن الإسلامي وسما عن حدود الوطنية الجغرافية والوطنية الدموية إلى وطنية المبادئ السامية والعقائد الخالصة الصحيحة، والحقائق التي جعلها الله للعالم هدىً ونوراً، والإسلام حين يشعر أبناءه بهذا المعنى ويقرره في نفوسهم يفرض عليهم فريضةً لازمةً لحماية أرض الإسلام من عدوان المعتدين، وتخليصها من غصب الغاصبين، وتحصينها من مطامع المتعدين.

طريق طويلة

أرجو أن تكون هذه الكلمات المتتاليات في بيان دعوة الإخوان المسلمين قد كشفت للقراء عن غايتهم، وأبانت لهم ولو إلى حد ما عن مناهجهم في السير إلى هذه الغاية، وقد تحدثت من قبل إلى إخواننا الغيورين على الإسلام ومجده حديثًا طويلاً هو أشبه بهذه الكلمات التي رآها القراء تحت عنوان: "إلى أي شيء ندعو الناس" ولقد أصغى إلىً من حدثتهم إصغاءً مشكورًا، وكنا نتفهم القول تباعًا أولاً فأول، حتى خرجنا من المحادثة مقتنعين تمامًا بشرف الغاية ونجاح الوسيلة، وكم كانت دهشتي عظيمة حين رأيت منهم شبه إجماع على أن هذه السبيل مع التسليم بنجاحها طويلة، وأن التيارات الجارفة الهدامة في البلد قوية، مما يجعل اليأس يدب إلى القلوب والقنوط يستولي على النفوس، وحتى لا يجد القراء الكرام هذا الشعور الذي وجده أولئك المتحدثون من قبل، أحببت أن تكون هذه الكلمات مفعمة بالأمل، فياضة باليقين في النجاح إن شاء الله، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وسأحصر الموضوع في نظرتين إيجابيتين:

نظرة فلسفية اجتماعية

يقول علماء الاجتماع إن حقائق اليوم هي أحلام الأمس، وأحلام اليوم هي حقائق الغد، وتلك نظرة يؤيدها الواقع ويعززها الدليل والبرهان، بل هي محور تقدم الإنسانية وتدرجها مدارج الكمال، فمن ذا الذي كان يصدق أن يصل العلماء إلى ما وصلوا إليه من المكتشفات والمخترعات قبل حدوثها ببضع سنين، بل إن أساطين العلم أنفسهم أنكروها لأول عهدهم بها، حتى أثبتها الواقع وأيدها البرهان، والمثل على ذلك كثيرة، وهي من البداهة بحيث يكفينا ذلك عن الإطالة بذكرها.

نظرة تاريخية

وإن نهضات الأمم جميعاً، إنما بدأت على حال من الضعف يخيَّل للناظر إليها، أن وصولها إلى ما تبتغي ضرب من المحال.

ومع هذا الخيال، فقد حدثنا التاريخ أن الصبر والثبات والحكمة والأناة وصلت بهذه النهضات الضعيفة النشأة، القليلة الوسائل، إلى ذروة ما يرجوه القائمون بها، من توفيق ونجاح، ومن ذا الذي كان يصدِّق أن الجزيرة العربية وهي تلك الصحراء الجافة المجدبة تنبت النور والعرفان، وتسيطر بنفوذ أبنائها الروحي والسياسي على أعظم دول العالم؟ ومن ذا الذي كان يظن أن أبا بكر صاحب القلب الرقيق الليِّن، وقد انتقض الناس عليه، وحار أنصاره في أمرهم، يستطيع أن يخرج في يوم واحد أحد عشر جيشاً، تقمع العصاة وتقوِّم المعوج، وتؤدب الطاغي وتنتقم من المرتدين، وتستخلص حق الله في الزكاة من المانعين؟.

ومن ذا الذي كان يصدق أن هذه الشيعة الضئيلة المستترة من بني علي والعباس تستطيع أن تقلب ذلك الملك القوي الواسع الأكناف ما بين عشية وضحاها، وهي ما كانت في يوم من الأيام إلا عرضة للقتل والتشريد والنفي والتهديد ؟. ومن ذا الذي كان يظن أن صلاح الدين الأيوبي يقف الأعوام الطوال، فيردّ ملوك أوروبا على أعقابهم مدحورين، مع توافر عددهم وتظاهر جيوشهم، حتى اجتمع عليه خمسة وعشرون ملكاً من ملوكهم الأكابر؟

ذلك في التاريخ القديم، وفي التاريخ الحديث أروع المثل على ذلك، فمن كان يظن أن الملك عبد العزيز آل سعود، وقد نفيت أسرته وشرِّد أهله وسُلب ملكه، يسترد هذا الملك ببضعة وعشرين رجلاً، ثم يكون بعد ذلك أملاً من آمال العالم الإسلامي في إعادة مجده وإحياء وحدته؟ ومن كان يصدق أن ذلك العامل الألماني (هتلر) يصل إلى ما وصل إليه من قوة النفوذ ونجاح الغاية؟

هل هناك طريق أخرى

وثم نظرتان سلبيتان تحدثان النتيجة بعينها وتوجهان قلب الغيور إلى العمل توجيهًا صحيحًا.

أولاهما: أن هذه الطريق مهما طالت فليس هناك غيرها في بناء النهضات بناءً صحيحًا وقد أثبتت التجربة صحة هذه النظرية. الواجب أولاً.

وثانيتهما: أن العامل يعمل لأداء الواجب أولاً، ثم للأجر الأخروي ثانيًا، ثم للإفادة ثالثًا، وهو إن عمل فقد أدى الواجب، وفاز بثواب الله ما في ذلك من شك، متى توفرت شروطه، وبقيت الإفادة وأمرها إلى الله، فقد تأتي فرصة لم تكن في حسابه تجعل عمله يأتي بأبرك الثمرات، على حين إنه إذا قعد عن العمل فقد لزمه إثم التقصير، وضاع منه أجر الجهاد وحرم الإفادة قطعًا، فأي الفريقين خير مقامًا وأحسن نديًا؟ وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في صراحة ووضوح في الآية الكريمة:(وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ) (الأعراف:164-165). قصة أمة تتكون..

ضعف

نحن الآن أمام جبار متكبر يستعبد عباد الله ويستضعفهم ويتخذهم خدمًا وحشمًا وعبيدًا وخولاً، وبين شعب من الشعوب الكريمة المجيدة استعبده ذلك الطاغية الجبار، ثم أراد الله تبارك تعالى أن يعيد لهذا الشعب المجيد حريته المسلوبة وكرامته المغصوبة ومجده الضائع وعزه البائد، فكان أول شعاع من فجر حرية هذا الشعب إشراق شمس زعيمه العظيم (موسى) على الوجود طفلا رضيعا:(نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِين وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ) (القصص:3-5).

زعامة

ونحن بعد هذا أمام هذا الزعيم وقد بلغ أشده واستوى، وتولته العناية الإلهية، بعد أن أنفت نفسه الظلم وعافت الضيم، ففر بنفسه وهرب بحريته، حيث اصطنعه الله لنفسه وحمله عبء رسالته، وأسند إليه خلاص شعبه، فآب مملوءًا بالإيمان مؤيدًا باليقين، يواجه ذلك الجبار فيطلب إليه أن يعيد إلى شعبه حريته ويترك له كرامته ويؤمن به ويتبعه. وما أروع ذلك التهكم المر اللاذع حين يحكي القرآن الكريم قول الرسول العظيم.

(وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ) (الشعراء:22).

أيها الجبار المتحكم في عباد الله لا عبادك، هل من النعمة التي تذكرنا بها والجميل الذي تسديه إلي أن تستعبد شعبي وتحقر أمتي وتمتهن قومي؟ إنها صيحة الحق دوت من فم النبي الكريم فزلزلت عرش الجبار وهزت ملكه:(فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ، وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (الشعراء:16-21). صراع:

ونحن الآن نشهد غضبة القوة على الحق كيف تثور عليه وتنتقم منه وتعذب أهله وتقهر مناصريه، ثم كيف يصبر أهل الحق على كل ذلك، وكيف يعللهم رؤساؤهم بالآمال الحلوة والأماني العزبة حتى لا يجد الخور إلى نفوسهم سبيلاً:(وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ، قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف:127-128). إيمان:

وما أروع أن نشهد ذلك النموذج الخالد من الثبات والصبر، والاستمساك بعروة الحق، والاستهانة بكل شيء حتى الحياة في سبيل الإيمان والعقيدة من أتباع هذا الزعيم الذين آمنوا بدعوته، وقد تحدوا هذا الجبار في استهانة واستماتة: (فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه:72-73).

انتصار

فإذا رأينا كل ذلك رأينا عاقبته في القسم الخامس وما أدراك ما هي؟ فوز وفلاح وانتصار ونجاح وبشرى تزف إلى المهضومين، وأمل يتحقق للحالمين, وصيحة الحق المبين تدوي في آفاق الأرض: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ) (طه:80).


الله أكبر ولله الحمد

المرشد العام للإخوان المسلمين حسن البنا

المصدر